واغوثاه.. انتفض لها طغاة وجبابرة الماضي.. وخذلها مؤمنين العصر

لم يعد هناك مكان آمن يمكن الاختباء به فالقصف وصل اى كل مكان، فالأب يحاول احتضان صغاره المفزوعين ويختبأ بهم في زاوية من منزله لعل وعسى الا يصيبهم أي مكروه من البرد القارس بعد اهتم العدو بتدمير المنازل والأحياء بالكامل، فسحابة من الموت تعلو سماء غزة، والليل سواده كثيف وليس هناك مصابيح قد تضاء في الافق.. فقد حوصرت غزة من كل حدب وصوب خلال الشهرين الماضيين، والجثث أصبحت بالالاف وضجت الأرض بدماء الأبرياء الذين ماتوا بقنابل العدو وقلة الطعام الذي لا يسد جوع الصغار، وحتى الماء لا يكفي ليروي ظمأهم، والرجال في صراع مع الجثث التي ينتشلونها من تحت الأنقاض بصعوبة وقلوبهم منكسرة على اطفالهم القتلى، ونساؤهم تصرخ واغوثاه فهل من مجيب ..
فقد كشف العدوان الأخير على قطاع غزة -والذي راح ضحيته حوالي 15 ألف شهيد، إضافة الى الأضعاف من المصابين أكثرهم من الأطفال والنساء عورات العرب والمسلمين – فالمقتلة تواصلت حوالي الخمسين يوما دون أن تلقى صدى التعاطف المتوقع لدي الحكام العرب الذين اجتمعوا في عاصمة الحرمين واضاعوا من وقتهم الثمين ساعات ليشجبوا وينددوا فقط ..
فرغم فداحة الجرائم التي ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي بطائراته منذ الثامن من أكتوبر حتى الجمعة الماضية موعد بداية الهدنة والعرب كانوا يشاهدون ويشاركون في هذه المقتلة. صحيح قد خرجت مظاهرات شعبية لكن ما كانت في أمريكا وبريطانيا وفرنسا وكندا أكثر قوة وتأثيرا حيث خرج الآلاف في مظاهرات تدعم غزة، إلا أن هذا التضامن الآن لم يحرك ساكنا في الحكام.
فقد كشفت الهدنة حجم الكارثة التي شهدتها غزة ، فقد نزح أكثر من مليون شخص حتى الآن، نصفهم من الأطفال، فيما بقي كثيرون في منازلهم المدمرة وكأنهم ينتحرون.. المعمرون والنساء والأطفال، ومن هم من ذوي الاحتياجات الخاصة، والمرضى جميعهم نزحوا سيراً على الأقدام، أو على ظهر السيارات، أو على الدراجات النارية، يتوجهون نحو الهلاك وهم يعرفون ذلك. ولا أحد منهم لديه بصيص أمل في أن يعود الى بيته مره اخرى أو هل سيبقى حيا؟، وهي مشاهد تذكرنا جميعا بالنكبة التي عاشها آباء واجداد هؤلاء منذ 75 عاماً.
والغريب أن هؤلاء المنكوبين من النساء قد ارسلن صرخاتهم الى المؤمنين العرب وأمراء المؤمنين من الرؤساء والملوك الذين لا ينقطعون عن حضور أي مناسبات دينية، واعتقد نساء غزة وأهل القدس والضفة من قبل أن نداءاتهم واستغاثاتهم قد تلقى بالا او ردود افعال لدي مؤمنين العصر كما لاقت الاستنفار والتلبية من طغاة وجبابرة العصور الماضية.. الموقف غريب ومتناقض.. فهناك ثلاثة من الأشخاص لا وضعهم التاريخ الإسلامي في مقدمة أكثر الطغاة والجبابرة المسلمين ومع ذلك عندما سمعوا أن صوت استغاثة إمرأة هبوا وانتفضوا ولبوا وحركوا جيوشا لنصرتها.. في الوقت الذي يملك العرب والمسلمين الآن جيوشا لا قبل لها وسلاحا وأوراق ضغط متعددة آخرها النفط والغاز ومع ذلك لم يتحركوا إلا كما يفعل الشعوب المغلوب على أمرها بأن واشجب واعترضوا باللسان وكأنهم يقولون أن هذا أضعف الإيمان وبالتالي فهم يقنعون أنفسهم بأنهم مازالوا في زمرة المؤمنين والان يتفاخر البعض بأنهم استطاعوا إبرام اتفاق للهدنة مع ان الجميعيعلم ان إسرائيل وامريكا كانوا يتمنون هذه الخطوة حتى يحافظن على قطرة الدماء الموجودةفي وجوههم..
الحجاج الطاغية ينتفض..
فرغم ما سطره التاريخ من قسوة وظلم الحجاج بن يوسف الثقفي، إلا أنه توسع في فتوحاته في لبلاد الهند والسند ( باكستان الآن) بسبب إمرأة.. فكانت بين الحجاج وبين داهر ملك السند وقائع شديدة، وقد أذاق داهر قادة جيوش الحجاج مرارة الهزيمة المرة بعد المرة.
غير أن اللافت للنظر أن مصرع هؤلاء القواد لم يحمل الحجاج على الجد في قتال داهر بمقدار ما حمله عليه استغاثة امرأة عربية مسلمة، اعتدى عليها وعلى نسوة عربيات كن معها بعض قراصين البحر من أهل السند التابعين لداهر. ذكر البلاذري في فتوح البلدان، أن ملك جزيرة الياقوت (جزيرة سيلان أو سريلانكا الآن، كان يقال لها جزيرة الياقوت؛ لحسن وجوه نسائها)، أراد التقرب من الحجاج فأهدى إليه نسوة ولدن في بلاده مسلمات ومات آباؤهن وكانوا تجارا، فهاجم السفينة التي كن فيها قراصين من “ميد الديبل” (كراتشي الآن) فاخذوا السفينة بما فيها، فنادت امرأة منهن من بني يربوع: يا حجاج! وبلغ الحجاج ذلك، فقال يا لبيك! وأرسل من فوره إلى داهر يسأله تخلية النسوة.. فأجاب بأنه أخذهن لصوص لا قدرة له عليهم.
فأرسل الحجاج اثنين من قواده الى السند فكلاهما قتل، فاهتاج الحجاج بن يوسف وتجرد لقتال داهر، وكان قد أعد محمد بن القاسم لغزو الري فلما حدث ما حدث على حدود السند رأى في هذا الشاب من يرأب الصدع ويدرك الثأر، فرده عن غزو الري وعقد له على مكران (إقليم بلوشستان بباكستان الآن) وثغر السند، وأمره أن يقيم بشيراز حتى توافيه القوة التي أخذ يعدها لقتال داهر.
وكانت هذه القوة مؤلفة من جيش وأسطول، أما الجيش فكانت عدته زهاء عشرين ألف مقاتل، منهم ستة آلاف فارس من جند الشام.
وأما الأسطول فكان يحمل المشاة والمؤن وعدد الحرب الثقيلة، ومن هذه خمس مجانيق ضخام، يقال لأكبرها (العروس).
وخرج محمد بن القاسم بجيشه من شيراز سنة 90هـ، متجهًا إلى مكران واتخذها قاعدة له، وتقدم نحو الديبل (كراتشي الآن)، حتى استولى عليها، وبنى بها المساجد وأسكنها أربعة آلاف مسلم, ثم واصل سيره، فكان لا يمرُّ على مدينة إلَّا فتحها، ففتح البيرون (وهي حيدر آباد حاليًا)، ثم توج ذلك كله بالانتصار على داهر ملك السند في معركة حامية سنة 93هـ. وأنفق محمد بن القاسم ستين ألف ألف درهم، من أصل عشرين ومائة ألف ألف، فقال الحجاج: شفينا غيظنا وأدركنا أثارنا وازددنا ستين ألف ألف درهم ورأس داهر”.
وامعتصماه..
أما المعتصم الذي عرف عنه الجبروت مع العلماء.. حيث سار المعتصم على نهج أخيه المأمون في التمسك بالمذهب الاعتزالي والدعوة له وحمل الناس عليه كرهًا، ويروي ابن كثير أن المعتصم هو من قام بتعذيب الإمام أحمد بن حنبل وكثير من العلماء وعليه جرت الفتنة في محنة خلق القرآن، وانه ضرب وعذٌب وسجن ابن حنبل، وأمر المعتصم في النهاية بإطلاق سراحه خوفا من ثورة تلاميذه .
وعلى النقيض يحكي المؤرخون أن إمبراطور الروم توفيل ميخائيل جهَّز جيشًا يزيد قُوامه على مائة ألف جندي، وسار به إلى بلاد الإسلام سنة 223هـ، فهاجم المدن والقرى، حتى بلغ زِبَطْرَةُ، فقتل من بها من الرجال، وسبى الذرية والنساء، وأغار على أهل مَلَطْيَةُ (من مدن تركيا) وغيرها من حصون المسلمين، وسبى المسلمات، ومثَّل بمن صار في يده من المسلمين.
وقد ضج المسلمون في مناطق الثغور كلها، واستغاثوا في المساجد والطرقات، وبلغ المعتصم أن هاشمية صاحت وهي في أيدي الروم: وامعتصماه. فأجاب المعتصم وهو على سريره: لبيك لبيك، وصاح في قصره: النفير النفير، وجهز جيشا قوامه خمسمائة ألف مجاهد. وعندما سار المعتصم بالله باتجاه الثغور تساءل: أي بلاد الروم أمنع وأحصن؟ فقيل: عمورية، لم يعرض لها أحد من المسلمين منذ كان الإسلام، وهي معقل دولة الروم ،وهي أهم عندهم من القسطنطينية، فسار باتجاهها، وتجهَّز جهازًا قيل: إنَّه لم يتجهَّز قبله بمثله من السلاح والعدد وآلات الحصار والنفط. وكانت أول فتوحات المعتصم أنقرة في 25 شعبان 223هـ، ففتحها بسهولة، واتجه بعدها إلى عمورية (مدينة عظيمة في هضبة الأناضول وسط تركيا، ولم يبق منها الآن سوى آثار).
وبدأ حصار عمورية في (6 رمضان 223هـ/ 1 أغسطس 838م)، ونصب المجانيق عليه، وبدأت المجانيق الضخمة مع آلات الحصار الأخرى تعمل عملها، حتى سقطت عمورية بعد أهم معركة عربية استخدمت فيها أدوات الحصار الضخمة الكبيرة كالمجانيق والسلالم والأبراج على اختلاف أشكالها وأنواعها، وذلك بعد حصار دام خمسة وخمسين يوما، من سادس رمضان إلى أواخر شوال سنة 223هـ. ثم أمر المعتصم باشعال النار في عمورية من سائر نواحيها، فأحرقت وهدمت، وعاد بعدها المعتصم بغنائم كبيرة إلى طرسوس، ومنها إلى سامراء منتصرًا مظفرًا.
المنصور ابن أبي عامر يغيث
كما جاء في سيرة حروب الحاجب المنصور ابن أبي عامر حاكم الأندلس الذي استولى على الحكم بعد موت الخليفة المستنصر بالله أنه سَيَّر جيشًا كاملاً لإنقاذ ثلاث من نساء المسلمين كنَّ أسيرات لدى مملكة نافار (أقصى الجنوب الفرنسي وشمال أسبانيا). ذلك أنه كان بينه وبين مملكة نافار عهد، وكانوا يدفعون له الجزية، وكان من شروط هذا العهد ألاََّ يأسروا أحدًا من المسلمين أو يستبقوهم في بلادهم، غير أنه قد حدث أمرٌ استفز المنصور وجيَّش من أجله الأندلس بكاملها، حيث علم من أحد رسلة إلي مملكة نافار أن سيدة مسلمة اشتكت من اسرها وسيدتين اخرتين وحجزها في كنيسة منذ سنوات.
وقالت السيدة لرسوله: أيرضى المنصور حالي ، وأكدت أن لها عدة سنين بتلك الكنيسة حبيسة، وبكل ذل وناشدته الله في إنهاء عذابها.
فلمَّا وصل إلى المنصور أعلمه بقصة المرأة فاعلن الجهاد من فوره، وامر بتجهيز الجيش ، فعندنا علم ابن شانجة بادر بارسال الرسل لمعرفة السبب مؤكدا انه لم يخن العهودالجليَّة، ويحلف له بأعظم القسم، أنه ما، فعنف رسله، وقال لهم -أي المنصور: كان قد عاقدني أن لا يبقى ببلاده مأسورةٌ ولا مأسور، ولو حملته في حواصلها النسور، وقد بلغني بعد بقاء سيدة مسلمة في تلك الكنيسة، ووالله لا أنتهي عن أرضه حتى أكتسحها.
فأرسل إليه المرأة و اثنتين معها، وأقسم أنه ما أبصرهنَّ ولا سمع بهنَّ، وأعلمه أن الكنيسة التي أشار بعلمها، قد بالغ في هدمها، تحقيقًا لقوله، وتضرع إليه في الأخذ في بطوله، فاستحيا منه المنصور، وصرف الجيش عنه، بعد ان وصلت المرأة إليه، فتأمل أيها القارئ كيف حرَّك الحجاج والمعتصم والمنصورة جيوشًا غوثًا لصيحة نساء استغاثت بهم فأغاثوهن، نسي الجميع جبروتهم وأصبحت كلمة “وامعتصماه” رمز الشجاعة العربية، ورمز المحافظة على حرمات المسلمين والدفاع عنها. غير أنه وياللأسى خذل مؤمنين العصر نساء غزة وفلسطين المحتلة.
شريف حمادة
كاتب وصحفي مصري