مدونات عرب بوست

الإنكشاف ..

 

على ريث جلست والحزن بعينيها ، وصوت زوجها لا يزال صداه فى مسامعها ، فقد احتد عليها وأسمعها بعض صريخ الغضب ، زاغت بعينيها فى سواء الأسى وقلبها فى صدرها له وجيب ، والسؤال يدهمها فى مرارة .. مال لهذا الحبيب قد حاد عما عهدته عليه ؟ إنه ليس هو الذى عرفته قبل أن أحل بداره شريكة حياة ، كان ينثر الحروف تبرا بارقا له صفوة وصفاء ، ويسيل من شفتيه الشهد كلاما أكاد أثمل لفرط لذته عند السماع ، وكان له خلق أحاله لجماله عندى ملاكا أو قريبا من ملاك ، فياليت شعرى من يرشدنى إلى ما وراء نكوصه عن تلك الخصال وخلعه لسربال الحسن والجمال ، ومن حزنها ذلك انسابت الدموع إلى حلقها وطفر بعضها من العيون ، بيد أنها غالبت القهر وقامت إلى حاجاتها لقضائها ودبيب الحزن لم يفارقها حتى انقضى أكثر النهار وحان ميعاد أوبة زوجها من عمله فأعدت له طعامه كأحسن ما يكون ، أعدته وفى نفسها أضمرت أن تستبين سر تحوله عما ألفته منه ، وعاد الرجل فلما أبصرته غلب شوقها حزنها فبادرت مسرعة إليه واحتوته بين ذراعيها فضمها هو ضمة حنون ذى اشتياق وتبسمت بوجهه ومررت كفيها على خديه ثم أمسكت بيده ومضت به نحو مائدة الطعام وأجلسته وبجواره جلست تحدو به أن يطعم من جوع وتقرب له ما يأكله تارة وتارة بيدها تطعمه حتى اعتذر عن المزيد فقد أتخم بطنه فما عاد به متسع لمزيد ، قام من مطعمه ، واستراح فى مجلسه ، فجاءت له بمشروبه فاحتساه حتى انتهى ، جلست بحذائه وبها اضطراب لم تخطئه عينه فعلم ما يعتمل فى نفسها فعاجلها بسؤال لديه معلوم الجواب ، أراك على غير ما يرام فهل من شاغل شغلك أو هم أهمك ؟ تنحنحت ببعض جراءة ولم تتلعثم شفتاها بالجواب ، حبيبى لا أكتمك ما يضيرنى كتمانه من موجدة وجدتها فى نفسى عليك ، وقد بدا لى منك ما لم أكن أرجوه وقد أساءنى وأثار فى وجدانى الحزن والأسى ، و…. قاطعها قولها وعلى فمه ابتسام به شفقة ، يا حبيبة قلبى ما بى من قوة أرد بها مستنكرا ما ستقولين فالإنصاف يلزمنى الإقرار ، والإنكار مكابرة فارغة لا تليق بذى دين ، ولا تكون من عاقل حكيم ، أعلم أنك تودين منى أن أكون كما ألفيتنى قبل زواجنا متحليا بالخصال والشمائل الحسان ، أعلم ذلك ولكننى أرتجى منك أن تعلمى أننا معشر البشر نجتهد فى تزويق أنفسنا وتجميل خصالنا فى عوابر اللقاءات ونغلف حقيقتنا بغلاف غليظ فلا ينفذ إليها إلا من طالت بنا عشرته أو جمعتنا به فاجعة من فواجع الأيام ، ولقد كنا قبل زواجنا فى لقاء عابر رغم تطاول الأيام والشهور ، فلقد كنت وأنت معى أسخياء فى معسول الكلام يسقى بعضنا بعضا منه كؤوس اللذة حتى ننتشى ، وكلانا يبتغى حفر المحبة فى قلب رفيقه وكان من ذلك أن ظننت بى كمالا مشربا بالجمال وظننته كذلك بك ولم أكن راضيا عن عقلى الذى يطل بين الحين والحين ينفث منطقه لأستعمله فى رؤياى لك ، وكذلك أنت فعلت ، فعشنا سويا فى سكرة الغرام ، فما استفقنا منها إلا بعد إيغالنا فى العشرة والجوار ، ولقد ذهبت الآن عنا السكرة وحضرت الفكرة وخمد نقع العواطف فبانت لنا معالمنا التى توارت فيما مضى ، فرأيت منى ما لم تكونى تحتسبين ، وكذلك رأيت منك ، فأسقط فى أيدينا وأصابنا شئ من الوجع .

‏ تسمع هى ساهمة ، وفى عينيها تجول استفاقة نضحها العقل وقد حضر من غيبته ، سألت وهى جامدة الطرف من دهش ، إن كان الحال على ما تقول فما عسانا نفعل ؟ إن حياتنا سوف تعسر ويكثر كدرها إن دوامنا على تلك الحال ، نهض إليها وجاورها فى مقعدها وعلى شعرها مرر يده فى حنان وناداها فى رقة ، لا تخافى ولا تحزنى فلسنا وحدنا فيما نحن فيه بل أكثر الناس كذلك لو تعلمين ، وليس علينا ولا على الناس إلا أن نتحلى بالحكمة والعقل القويم ، ونستذكر على الدوام أننا من خلق الله الذى قضى بحكمته عليه أن يعتوره النقص وإن بذل غاية الوسع ليعرج نحو الكمال ، فإن لم تغب عن بالنا تلك الحقيقة توجب علينا التغافر والمسامحة والتغافل عن الهنات إلتماسا لصفو الحياة فبغير صفوها تؤول إلى جحيم نصطليه أمد أيامنا فيها ، واعلمى أنه ما من مغبون فى عقله ومغبونة مثل الذى يرتجى من شريك الحياة أن يبقى على جماله وحسنه الذى كان قبل أن تطأ الأقدام أرض الزوجية وما تحتمه من طول العشرة الكاشفة لما وورى عنا فى سالف الأيام ، استدارت برأسه نحوه بثغر شنيب ولها ابتسام يحكى إعجابا بحكمته وعميق معانيه واستطردت ومن العقل كذلك ألا نغلق عينا ونفتح أخرى فلا نبصر إلا ما ساء من خصالنا ونعمى عن جميلها فذلك يجعلنا فى جفوة مع الإنصاف والإنصاف يا سيدى يحتم علينا أن يرى كل منا كل رفيقه بحسنه ومعايبه والحسن عند المحبين خير شفيع لما ساء فى المحبوب ، والمحبوب إن أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع ، بل من أراد الإستزادة من الخير فليتغافل عن مثالب صاحبه وليتناساها ثم يصب الإهتمام كله على المحاسن حتى تشغله فلا يكاد يرى سواها ، تناول رأسها بين يديه وضمها إلى صدره وطبع قبلة فوق الجبين فرحا منه بما قالت وأكمل عطفا على قولها ، ويا حبيبة قلبى وعلى ما سبق يزاد القول بأن علينا إن عقلنا ألا نترك أنفسنا هملا ونتراخى عن مجاهدتها حتى نداوى ما اعتل منها ونقيم ما اعوج فيها ونسعى ما وسعنا السعى لتطهير الثوب مما علق به من أدران فإن قدرنا على ما نروم فذاك هو المرتجى وإن عجزنا حزنا شرف المجاهدة ، أفلتت رأسها من بين ذراعيه والتقت عيناها بعينيه فى صمت يحكى فى بلاغة إعجابا وحبا وعزما كذلك على قبول النصح والقول الحكيم .

جمال بخيت

كاتب وروائي مصري

alarabicpost.com

موقع إخباري عربي دولي.. يتناول آخر الأخبار السياسية والاقتصادية والثقافية والرياضية، إضافة إلى التحقيقات وقضايا الرأي. ويتابع التطورات على مدار 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى