كتب د/ حربي الخولي
نجد في آيات كثيرة فعل “كسب” وفعل “اكتسب” كما في قوله تعالى في سورة البقرة :” لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ”، وقوله تعالى في سورة الأحزاب :” والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا “، وقوله تعالى في سورة الطور : ” وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ ۚ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ “، وقوله تعالى في سورة المسد :” مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ” . فما الفرق بين الفعلين ؟ يذكر الكثير من المفسرين أنه لا فارق دلالي بينهما والقرآن ناطق بذلك كما في قال الله تعالى : ( كل نفس بما كسبت رهينة ) [ المدثر : 38 ] وقال : ( ولا تكسب كل نفس إلا عليها ) [ الأنعام : 164 ] وقال : ( بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته ) [ البقرة : 81 ] ، وقال : ( والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا ) [ الأحزاب : 58 ] فدل هذا على إقامة كل واحد من هذين اللفظين مقام الآخر .
والحقيقة عند التدقيق نجد أن الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة فرق بينهما فقال تعالى : :” لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْۚ” فلماذا ذكر الله في الحسنة ” كسب ” ومع السيئة ” اكتسب ” ولما يجعل فعلا واحد مع الاثنين ؟ فنجد أن الفعل “كسب ” من الوزن الأصلي “فعل” والفعل “اكتسب” مأخوذ عن “كسب” على وزن “افتعل” الذي به زيادة تدل على الافتعال والتكلف والزيادة في عمل الفعل، إذا فالأصل “كسب” وهو أعم من “اكتسب”، فالكسب تعني أن تكسب لك ويجوز لغيرك كذلك، لعموم الكسب، فتقول :” كسبت مالا لي ولأسرتي”، وليس من الدقة اللغوية أن تقول :” اكتسبت مالا لي ولأسرتي”، أما “اكتسب” فالفعل أخص وتعني لك وحدك، فتقول :” اكتسبت مالا “؛ أي لي وحدي، لذلك قال تعالى : ” لَهَا مَا كَسَبَتْ”؛ أي يكسب الإنسان لنفسه ويجوز لغيره من خير، أما في الشر فعليه وحده فقال :” وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ”. كما أن الفعل “كسب” الأصلي الذي جاء مع الخير يدل على أن المؤمن يعمل الخير بفطرته وبسهولة وهو سعيد، لكن مع الشر يحتاج هذا المؤمن للتكلف ويكون ضد طبيعته، فتجد الإنسان المؤمن إذا اضطر للكذب يتكلف ذلك ويظهر من خلال صوته وملامحه اضطرابه، ويفتعل الكذب افتعالا؛ لذا جاء مع السيئة ب” اكتسب ” التي تدل على الافتعال، فإذا اعتاد الإنسان السيئة صارت طبيعة له سهلة فأصبح يكسبها ولا يحتاج لاكتسبها، وهو ما ظهر في وصف الملاعين المغضوب عليهم في قوله :” وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً ۚ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ ۖ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ” فهؤلاء صارت طبيعتهم السيئات يقترفونها بسهولة وطبيعة – أخزهم الله وأحرقهم بنار الدنيا قبل الآخرة – فعبر عنهم الله بذلك، فقال :” من كسب سيئة “، ولم يقل “اكتسب”؛ ليدل على أن فعل السيئات صار طبيعة وسجية؛ ولذا كان جزؤهم أنهم أصحاب النار خالدين فيها .
كما نجد أن الحسنة إثباتها وكتابتها للإنسان بطرق كثيرة بسيطة ، منها : أن يهم بها ولا يفعلها، أو ينويها أو يشرع فيها أو يتمناها دون فعلها، فتكتب له حتى قبل فعلها؛ لذا ناسب الحسنة الفعل الطبيعي الأصيل كسب، أما مع السيئة فمن رحمة الله لا تكتب إلا إذا فعلها بالفعل، فناسب ذلك التشدد والزيادة في الفعل للزيادة في شروط تسجيلها على الإنسان فجاء بالفعل ” اكتسب ” . هذا والله أعلى واعلم