كتب د/ حربي الخولي
يلاحظ في قوله تعالى جزاء للمؤمنين في الجنة في سورة فاطر قوله ” يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ “، وفي سورة الكهف قوله ” يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ “، أما في سورة فاطر فكان الجزاء قوله تعالى ” وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ ” فلماذا مع الذهب كان حرف الجر من أساور، ومع الفضة كانت الأساور دون حرف الجر من ؟
بداية لماذا يكون الذهب جزاء أحيانا، وتكون الفضة جزاء أحيانا ؟ ذكر المفسرون أن ذلك يعني التعدد والتنوع؛ بمعنى أن المؤمن يلبس أساور من ذهب وأساور من فضة، لكن عند التأمل نجد أن أساور الذهب أعلى في الأجر من أساور الفضة كما هو الحال في الدنيا، فكما أن الذهب أعلى قيمة وكذلك اللؤلؤ من الفضة فهو الأمر ذاته الذي يتمنى أن يحظى به المؤمن في الجنة إن لم يحققه في الدنيا، وكما أن الجنة درجات فكذلك الجزاء درجات، فالذهب للأعلى درجة، وهذا يُلاحظ من الآيات، فنجد الذهب يكون جزاء للذين يتلون كتاب الله بتدبر وإيمان، ويقيمون الصلاة وهي عماد الدين، وينفقون في السر والعلن بصورة شاملة، وفي كل أوجه الخير، ويسابقون للخيرات ابتغاء لرضا الله وطلبا لحبه وليس خشية من عقابه وناره، فيكون جزاء هؤلاء موَّفى من الله مع زيادة من فضل الله، ومن هذا الفضل التحلية من أساور من ذهب لأنهم أعلى مكانه، وهو ما جاء في سورة فاطر :” إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ۚ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا ۖ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) “.
وكذا حال هؤلاء في سورة الكهف من إيمانهم التام بالله، وعملهم كافة أنواع الصالحات في السر والعلن طلبا لرضا الله المستحق هذا الحب لذاته وبذاته العظمى، وليس خشية من عذابه، وهذا الحب الجلي لله ذكرته رابعة العدوية في قولها :
أحــبّك حبّيْن حُبّ الهوى .. وحُبّاً لأنك أهل لـــــــــــــــذاك
فأما الذي هو حُبّ الهوى .. فشغلي بذكرك عمّن ســــــــواك
وأمـــــــــــــــا الذي أنت أهل له .. فكشفك للحُجب حتى أراك
فلا الحمد في ذاك ولا ذاك لي .. ولكن لك الحمد في ذا وذاك
ولما علمت بأن قلبي فارغ ممَن سواك .. ملأته بهـــــــــواك
وملأت كلّي منك حتى لم أدع مني مــــــــكاناً .. خالياً لسواك
فالقلب فيه هيامه وغرامه .. والنطق لا ينفكّ عن ذكـــــــراك
فكان جزؤهم الأعلى ومنه أساور من ذهب :” إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَٰئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ ۚ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31) “.
أما الدرجة الأقل وهي درجة الفضة فنجد يتصف بها في سورة الإنسان من يوفون بالنذر، والنذر صدقة البخيل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويكون الوفاء بالنذر خشية فقط من عذاب يوم القيامة، وهم يطعمون الطعام رغم حبهم لذلك الطعام وحرصهم عليه ليس من جود النفس وحبا لرضا الله ولكن خشية من عذاب يوم القيامة، وهم يطعمون حالات إنسانية ظاهرة مثل المسكين واليتيم والأسير، ولا يكتفون بذلك إنما يقولون بألسنتهم للمسكين واليتيم والأسير إنما نطعمكم في الله – جل ثناؤه – فزعا من عذابه وطمعا في ثوابه أي نيتهم وعملهم خوفا من العذاب بدليل قولهم : إننا نخاف يوما شديدا من الحساب؛ لذا أعطاهم الله جزاءهم تاما ومنه الأساور من الفضة وليست من الذهب مثل السابقين بالخيرات المنفقين رغبة في حب الله لهم وطلبا لرضائه وتقريبهم له :” يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) …… عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ ۖ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا “.
وتبعا لذلك نجد أن حرف الجر “من” أمام أساور الذهب يفيد كثرة هذا الأساور؛ ليختار منها عباد الله المقربون ما يشاءون، فهم يحلون في الجنة من أساور من ذهب أي بعضا من هذه الأساور الكثيرة جدا، أما مع الفضة فيتحلون بالأساور فقط التي أمامهم من فضة وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ . اللهم اجعلنا من السابقين بالخيرات الذين يحلون من أساور من ذهب . هذا والله أعلى وأعلم