مدونات عرب بوست

حسرات الندم …

آب عمها – أخو أبيها لأمه – من سفره وقد طال عن سائر الأسفار ، وتخلفت هى عن الذهاب إليه ، وما هذا لها بدأب ، فاهتم لتخلفها ، وأصابه شغل بها ، فهى عنده أثيرة محبوبة ، تمهل يومين استراحة من وعثاء السفر وفى الثالث خف إليها زائرا ، طرق بابها فعرفت من الزائر بحدسها وذكائها المعهود ، قامت من بين وهنها والألم ، وفتحت الباب ولما أبصرته كالت له الترحاب ، أمال قامته من طولها واحتواها بين ذراعيه باشتياق ، احتواها وهو يجاهد فى مواراة صدمته مما رآه بها ، تقدمها وعلى أريكة جلس وهى بحذائه على أخرى جلست ، راح يتأملها ذاهلا عن كلامها ، فقد أبصرها شاحبة بعد نضارة ، ذابلة الوجه غائرة العينين ناحلة البدن بعد عفاوة ، وعاد إليها بعد شرود ولم يدرك شيئا مما قالته وسألها فى مرارة ، مالك يا ابنة أخى ؟ ماذا دهاك ؟ أهم أصابك أم علة ذات قساوة ؟ تنهدت وبالعينين للأرض أطرقت وراحت بالهمس الواهن تجيب ألا علة ولا داء ، وإنما هو جهد البلاء ، أخذه العجب وقال فى أسى لحالها وأسف ، أى بلاء يا ابنة أخى ؟ أى بلاء وأنت زينة النساء وصفوة الحريم ؟ ومن ذا الذى يجرؤ أن يصيبك ببعض كرب وأنت المرغوبة لدى كل خاطب ؟ والأمنية الكبرى لكل فتى وشائب ؟ و… قامت وقالت يا عماه قد أتانى البلاء من بعل أنا فى عصمته قد اخترته على علم عندى ، تغنى بى وألهب مشاعرى بغزله وبث غرامه ، فغيب العقل منى ومنى طفح الوجدان فقبلته بغير تمحيص ، وأسلمت له زمامى بلا تفحيص ، وانقدت إليه حيث أراد ، حتى صرت فى عصمته ، وعندها وقفت على حقيقته ، شره لمالى ولا يعنيه جمالى ، فظ قد توارى فى ثياب اللين ، وكشر عن أنياب شر كنت أراها بسمة على ثغر شنيب ، واليوم أصطلى العذاب على يديه ألوانا ، وأزدرد الذل كؤوسا وأتجرع مع الذل هوانا ، وأرنو إلى أفقى لأنظر ما به ، هل به من بصيص خلاص؟ فلا أرى سوى عتمة من السواد والإحباط .

‏ قام إليها عمها الطيب وسائلها وأين مالك لتستغنى به عنه ؟ مالى قد أسرف فيه بسفاهة حتى أفناه ، بل ألقى على كاهلى ديونا قد استدانها من شتى صنوف الناس ، حتى وإن كان معى مالى ، فلن يتورع عن سفك دمى إن علم أنه قد جال بخاطرى خلعه أو الإستغناء عنه ، .. إذن فأين رجال أهلك والمقربين ؟ أما لك منهم نصير ولا معين ؟ .. أقاربى قد غبن كثير منهم فيه كما غبنت ، وأشادوا به كما أشدت ، ومن كان ذا فطنة به ، وأعلى صوته لافظا له ، باء منه بالبطش والنكال ، … والذين غبنوا فيه من أهلك ألم يستفيقوا من سكرة الحمق التى كانت بهم ؟… نعم استفاقوا ولكن بعد أن سبق السيف العزل ، واليوم لديه أهله مالكو الحديد والنار ، بهم وبالرعب منهم يسكت كل ناطق بفيه ، وما عاد لى أمل يا عماه فى الخلاص ، أنا لا أدرى كيف ستكون بقية يومى أو غدى ، كل الذى أدريه أننى فى البلاء أروح وأغتدى ، أجتر المر بكرة وعشيا ، وودت لو مت وكنت نسيا منسيا ، فآه من حسرة الندامة تحرق كبدى ، لها جمرات تقض مضجعى ، فهل من خلاص ولو بالخلاص من الروح الباعثة فى البدن بالحياة ، فيا ويح هذا البدن الموكل بالعذاب .

‏ غامت عينا الطيب بالدمع إشفاقا وأسى ، واعتصر قلبه الحزن وتملكه الوجع ، غير أنه أخفى الذى فى قلبه جرى ، راح يعتب عليها حين تمردت على بعلها الأول وأصغت السمع للقادحين فيه ، وقال لها قد افتريت على الرجل وصدقت فيه ما قاله الأفاقون ، وخال عليك ما كذبه عليه المنافقون ، وخدعت بما أفرغه فى سمعك الذين بالفساد منتفعون ….. لكنه وإن كان طاهرا كان ضعيفا ، يتردد فى كل قرار ، متأرجحا فليس له قرار ، لين القبضة بلا شكيمة ، واهى الإرادة بلا عزيمة …. إنما كان ضعفه يا ابنة أخى لأنه كان منكشف الظهر ، سعى للغلبة لكن غلبه القهر ، ليس له ركن شديد يأوى إليه ، ولا متكأ يتوكأ عليه ، حتى عصف به الجبروت الأحمق المسعور ، فلا تثريب عليه ولا عليه ينكر منكور ….. قد كان الذى كان يا عماه ولا نفع فى سفح الدموع على اللبن المسكوب ، لكنما أسفح دمعى على حالى المنكوب ، وعلى بيتى العامر قد آل إلى بيت مخروب ، ولله الأمر من قبل ومن بعد ، ألقت برأسها على صدره وبكت بدمع حارق وحزين تردد فى أسى ، يا عماه ليس لها من دون الله كاشفة ، فيؤمن على قولها ونعم بالله العلى العظيم .

جمال بخيت

كاتب وروائي مصري

alarabicpost.com

موقع إخباري عربي دولي.. يتناول آخر الأخبار السياسية والاقتصادية والثقافية والرياضية، إضافة إلى التحقيقات وقضايا الرأي. ويتابع التطورات على مدار 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى