حسرات الندم …
آب عمها – أخو أبيها لأمه – من سفره وقد طال عن سائر الأسفار ، وتخلفت هى عن الذهاب إليه ، وما هذا لها بدأب ، فاهتم لتخلفها ، وأصابه شغل بها ، فهى عنده أثيرة محبوبة ، تمهل يومين استراحة من وعثاء السفر وفى الثالث خف إليها زائرا ، طرق بابها فعرفت من الزائر بحدسها وذكائها المعهود ، قامت من بين وهنها والألم ، وفتحت الباب ولما أبصرته كالت له الترحاب ، أمال قامته من طولها واحتواها بين ذراعيه باشتياق ، احتواها وهو يجاهد فى مواراة صدمته مما رآه بها ، تقدمها وعلى أريكة جلس وهى بحذائه على أخرى جلست ، راح يتأملها ذاهلا عن كلامها ، فقد أبصرها شاحبة بعد نضارة ، ذابلة الوجه غائرة العينين ناحلة البدن بعد عفاوة ، وعاد إليها بعد شرود ولم يدرك شيئا مما قالته وسألها فى مرارة ، مالك يا ابنة أخى ؟ ماذا دهاك ؟ أهم أصابك أم علة ذات قساوة ؟ تنهدت وبالعينين للأرض أطرقت وراحت بالهمس الواهن تجيب ألا علة ولا داء ، وإنما هو جهد البلاء ، أخذه العجب وقال فى أسى لحالها وأسف ، أى بلاء يا ابنة أخى ؟ أى بلاء وأنت زينة النساء وصفوة الحريم ؟ ومن ذا الذى يجرؤ أن يصيبك ببعض كرب وأنت المرغوبة لدى كل خاطب ؟ والأمنية الكبرى لكل فتى وشائب ؟ و… قامت وقالت يا عماه قد أتانى البلاء من بعل أنا فى عصمته قد اخترته على علم عندى ، تغنى بى وألهب مشاعرى بغزله وبث غرامه ، فغيب العقل منى ومنى طفح الوجدان فقبلته بغير تمحيص ، وأسلمت له زمامى بلا تفحيص ، وانقدت إليه حيث أراد ، حتى صرت فى عصمته ، وعندها وقفت على حقيقته ، شره لمالى ولا يعنيه جمالى ، فظ قد توارى فى ثياب اللين ، وكشر عن أنياب شر كنت أراها بسمة على ثغر شنيب ، واليوم أصطلى العذاب على يديه ألوانا ، وأزدرد الذل كؤوسا وأتجرع مع الذل هوانا ، وأرنو إلى أفقى لأنظر ما به ، هل به من بصيص خلاص؟ فلا أرى سوى عتمة من السواد والإحباط .
قام إليها عمها الطيب وسائلها وأين مالك لتستغنى به عنه ؟ مالى قد أسرف فيه بسفاهة حتى أفناه ، بل ألقى على كاهلى ديونا قد استدانها من شتى صنوف الناس ، حتى وإن كان معى مالى ، فلن يتورع عن سفك دمى إن علم أنه قد جال بخاطرى خلعه أو الإستغناء عنه ، .. إذن فأين رجال أهلك والمقربين ؟ أما لك منهم نصير ولا معين ؟ .. أقاربى قد غبن كثير منهم فيه كما غبنت ، وأشادوا به كما أشدت ، ومن كان ذا فطنة به ، وأعلى صوته لافظا له ، باء منه بالبطش والنكال ، … والذين غبنوا فيه من أهلك ألم يستفيقوا من سكرة الحمق التى كانت بهم ؟… نعم استفاقوا ولكن بعد أن سبق السيف العزل ، واليوم لديه أهله مالكو الحديد والنار ، بهم وبالرعب منهم يسكت كل ناطق بفيه ، وما عاد لى أمل يا عماه فى الخلاص ، أنا لا أدرى كيف ستكون بقية يومى أو غدى ، كل الذى أدريه أننى فى البلاء أروح وأغتدى ، أجتر المر بكرة وعشيا ، وودت لو مت وكنت نسيا منسيا ، فآه من حسرة الندامة تحرق كبدى ، لها جمرات تقض مضجعى ، فهل من خلاص ولو بالخلاص من الروح الباعثة فى البدن بالحياة ، فيا ويح هذا البدن الموكل بالعذاب .
غامت عينا الطيب بالدمع إشفاقا وأسى ، واعتصر قلبه الحزن وتملكه الوجع ، غير أنه أخفى الذى فى قلبه جرى ، راح يعتب عليها حين تمردت على بعلها الأول وأصغت السمع للقادحين فيه ، وقال لها قد افتريت على الرجل وصدقت فيه ما قاله الأفاقون ، وخال عليك ما كذبه عليه المنافقون ، وخدعت بما أفرغه فى سمعك الذين بالفساد منتفعون ….. لكنه وإن كان طاهرا كان ضعيفا ، يتردد فى كل قرار ، متأرجحا فليس له قرار ، لين القبضة بلا شكيمة ، واهى الإرادة بلا عزيمة …. إنما كان ضعفه يا ابنة أخى لأنه كان منكشف الظهر ، سعى للغلبة لكن غلبه القهر ، ليس له ركن شديد يأوى إليه ، ولا متكأ يتوكأ عليه ، حتى عصف به الجبروت الأحمق المسعور ، فلا تثريب عليه ولا عليه ينكر منكور ….. قد كان الذى كان يا عماه ولا نفع فى سفح الدموع على اللبن المسكوب ، لكنما أسفح دمعى على حالى المنكوب ، وعلى بيتى العامر قد آل إلى بيت مخروب ، ولله الأمر من قبل ومن بعد ، ألقت برأسها على صدره وبكت بدمع حارق وحزين تردد فى أسى ، يا عماه ليس لها من دون الله كاشفة ، فيؤمن على قولها ونعم بالله العلى العظيم .
جمال بخيت
كاتب وروائي مصري