طُرُق الموت السريع: سباق الإنشاءات في مصر دون تخطيط… من يدفع الثمن؟

في الوقت الذي تعلن فيه الدولة المصرية عن طفرة غير مسبوقة في مشروعات الطرق والكباري، حيث تجاوز إجمالي ما تم إنفاقه وفقًا للتقارير الرسمية 300 مليار جنيه في أقل من عشر سنوات، تعاني الطرق الجديدة من أعطال وانهيارات تظهر في غضون أيام أو أسابيع، لا سنوات، والنتيجةحوادث واستمرار سقوط الدماء على الأسفلت.
المشهد يتكرر: طريق يُفتتح، ويقوم المسئولين بقطع شريطه، أمام عدسات كاميرات التلفزيون والصحافة، ثم يبدأ في التآكل، التشقق، أو حتى الانهيار تحت أول اختبار مناخي أو مروري حاد.
فما السبب؟ وهل نحن أمام فشل في التخطيط أم في التنفيذ… أم في الضمير؟
الإنشاء قبل التخطيط
إن ما يحدث لا يعبّر عن مجرد “أخطاء فنية”، بل عن سياسة قائمة على تقديم الصورة قبل المضمون.
تعتمد عقلية الدولة على سياسة تحقيق إنجازات مرئية في أقصر وقت فكما سبق وتم الاعلان عن إنشاء 3 مشاريع جديدة كل يوم، ورغم انه قد يكون حقيقة لكن على حساب الخطوات العلمية الأساسية:
فلا يوجد دراسات جدوى حقيقية قبل تنفيذ الطرق.
ولا يوجد تحليل جيولوجي دقيق للتربة أو مصبات السيول.
كما أن هناك غياب الرؤية المستقبلية لحركة المرور والسكان.
أعتقد أن هذا ما يجعل معظم الطرق تنهار بعد افتتاحها، لا بعد استهلاكها، ما يضاعف تكلفة الصيانة ويهدر المال العام دون محاسبة حقيقية.
الصيانة: الفاتورة الخفية التي لا تُذكر
والنتيجة الحتمية لسوء التنفيذ والسرعة غير المدروسة، أصبحت تكلفة صيانة الطرق الجديدة في مصر تفوق أحيانًا تكلفة إنشائها.
فوزارة النقل خصصت ما يقرب من 110 مليار جنيه لصيانة ورفع كفاءة 8400 كم، بينما إنشاء 6300 كم كلّف 155 مليار جنيه.
وواقع الأمور يؤكد أن:
كثير من مشروعات الصيانة هي ترميمات متكررة لأخطاء متعمدة أو ناتجة عن الإهمال.
والأغرب هو قيام الوزارة بإعفاء المقاولين من الصيانة بعد التسليم، رغم ظهور العيوب فورًا.
وبالتالي يتم إهدار المال العام مرتين على الأقل… في الإنشاء ثم في الترميم، دون تحميل أحد مسؤولية فشل الطريق.
أمثلة صارخة على هذا الخلل:
1. طريق شرم الشيخ – دهب
انهار بعد 4 أشهر من افتتاحه رغم الترويج له كمشروع سياحي استراتيجي. السيول كشفت عن ضعف تصميم البنية التحتية بالكامل.
2. الطريق الإقليمي الدولي (المنوفية)
شهد كارثة مأساوية راح ضحيتها فتيات عاملات، دون إعلان أي مساءلة مباشرة عن جودة الطريق، رغم كلفته التي تجاوزت 50 مليار جنيه حسب تصريحات رسمية.
3. محور الجلالة–السخنة
رغم تصميمه على جبال، يشهد حوادث مروعة بسبب انحدارات غير مدروسة، وعدم وجود وسائل تحكم مروري فعّالة.
المقاولون من الباطن… الحلقة المفقودة في المحاسبة
إن أحد الأسباب الأساسية لانهيار الجودة هو تفويض التنفيذ إلى مقاولين من الباطن، الذين يعملون تحت ضغط الوقت وبأقل تكلفة ممكنة، دون رقابة صارمة أو شفافية في العقود.
غالبًا ما تُمنح العقود لمقاولين بالمعارف أو النفوذ، لا بالكفاءة، ولا تُنشر بياناتهم أو سجلهم الهندسي.
ربط الطريق بالإنسان… لا بالمنصب
لا معنى لإنشاء طريق يكلف مليارات، إذا كان سيقود إلى مقبرة جماعية للفقراء.
الطرق ليست مناسبة لتجميل التقارير أو استعراض الحفلات الرسمية. الطرق قضية حياة أو موت.
ما نحتاجه:
1. منع تنفيذ أي مشروع دون دراسة جدوى فنية وبيئية منشورة.
2. إلزام المقاول بصيانة الطريق خلال أول 3 سنوات دون مقابل إضافي.
3. تشكيل لجان رقابة فنية مستقلة من الجامعات ونقابة المهندسين.
4. علنية العقود والمحاسبة بعد كل حادث انهيار.
5. فتح ملف “جودة الطرق” في البرلمان بشفافية وبدون خطوط حمراء.
الخلاصة
نحن لا نحتاج إلى “طرق جديدة” بقدر ما نحتاج إلى فكر جديد يحترم التخطيط قبل الإسفلت، ويحترم أرواح الفقراء قبل الكيلو مترات المعبدة.
فمن دون ضمير في التخطيط، واستقلال في الرقابة، وربط الإنفاق بالمحاسبة،
ستبقى مصر تفرح بافتتاح الطريق اليوم، وتبكي على ضحاياه غدًا.
شريف حمادة
كاتب وصحفي مصري