مقالات

عبارة ” يا ساتر ” بريئة من الكفر والإلحاد ( ١ )

استوقفني في الآونة الأخيرة منشورات عبر وسائل التواصل الإجتماعي تعد مادة للتندر بما فيها من طرف فكرية ومساجلات فكاهية أقل ما يمكن أن توصف به السطحية وأبسط رد فعل عليها هو الضحك التلقائي, تدور هذه المادة الفكاهية حول عبارة “يا ساتر” وحكم قائلها, وهل يمكن تكفير قائلها أو رميه بالشرك, واختلف أهل الفتوى بين مؤيد وبين معارض بشدة, وعندما تم تتبع هذا “الجدال الفكري العميق” وجدنا أن مصدره هو منشور متداول عبر موقع التواصل الإجتماعي، جاء فيه : «ساتر.. هو اسم عفريت من الجن..فإذا قلت ياساتر فأنت أشركت بالله دون علم..والصحيح هو ستار قفل:ياستار أو يا ستير..لاخير في كاتم العلم..معلومة أول مرة أسمعها..استغفر الله وأتوب إليه..ملحوظة: من كتم علماً لجم بلجام من نار”.
وجاءت قليل من الردود موافقة على ذلك أي تحريمه وتكفير وتشريك قائلها, بينما تصدر أهل العلم والفتيا بردودهم لنفي التكفير والشرك عن قائل يا ساتر وكان من تلك الردود أنه من الجهل تكفير قائل “يا ساتر”, فرغم أنه لم يثبت أن “ساتر” و”ستار” من أسماء الله الحسنى حيث جاء في الحديث صفة “ستير” لوصف الله :” إن الله حيي سٍتير يحب الحياء والستر” (وفي “لسان العرب” ج 4, مادة “ستر” ستير فعيل بمعنى فاعل أي من شأنه وإرادته حب الستر والصون), إلا أن “ساتر” تُعامل على أنها صفة لله وليست إسماً, كما قالوا أنه لم يثبت وجود جني أو شيطان أو عفريت بهذا الإسم, وهناك من زاد أن فعل الستر ومعناه محبب ممدوح وأنه لا يمكن أن يُنسب للشيطان بل ذهبوا بعيداً من أن القول بالتحريم والتكفير والتشريك قد يكون من تلبيس الشيطان لمنع الناس من الخير, فالله هو الساتر والستار لذنوب عباده وخطاياهم, بينما قصد الشيطان الفضح والإغواء ومن ثم فالستر يخالف عمله.
والحقيقة أننا إذا ما تصدرنا لتحليل ذلك علينا تحليل جزئيتين أساسيتين في تلك المسألة الجزئية الأولى أن ما بدا من ظاهر قول “يا ساتر” وباطنه أن محرميه ارتكزوا فيما يغلب على ظني على عبارة “يا ساتر” التي لا تعني لديهم طلب الستر من الشيطان أو الجني أو العفريت في أمر ما, بل الإستئذان من ذلك الشيطان وطلب الأمان وعدم التعرض أي التعوذ بالشياطين من دون الله وهذا ما جعلهم يصنفون الأمر في دائرة الشرك بل الكفر عن جهل تام بمعنى “يا ساتر” وهنا نعرج على مرادف من الفولكلور الشعبي يساوي تماماً قول “يا ساتر” وهو أساساً مختلف بشأنه أيضاً لكن أولاً علينا دراسته وتحليله.
“دستور” (بضم الدال أو فتحها), و”تستور” (بالتاء وهي تحريف عامي ولهجاتي للأصل “دستور”) و”دستور يا أسيادنا” و”دستور يا مباركين”, و”يا ساتر”: هي كلها أشكال مختلفة علقت في الفولكلور الشعبي ولقد تعددت الآراء والتفسيرات في ذلك فذهب البعض أن الأصل (لاحظ أن إستخدام كلمة ساتر [من الستر] بمعنى “دستور” ربما كانت مشتقة من دستور أو تستور رغم إختلاف الأصلين فعند تحريف دستور وتستور تحريفاً معرباً نشتق منها مادة ستر وكلمة “ساتر”) هو الإستئذان أو طلب الإذن من الجن إما بطريقة شفهية مجردة أو في طقس تعوذي يُطلق فيه البخور ويُقال فيه “دستور يا أسيادنا يجعل كلامنا خفيف عليهم”, ولا يقتصر الأمر فقط على الإستئذان ودخول مكان ما بل جرت العادة أيضاً على استخدام كلمة “دستور” أو “دستور يا مباركين” عند صب أو سكب الماء الساخن في مكان ما أو عند دخول المرحاض أو إدلاء الدلو في بئر أو إيقاد نار, أو عقد حلقات الزار بغرض الإستئذان وطلب الأمان والحماية, وهناك من أشار أيضاً إلى استخداماتها الصوفية حيث يُقال عند الدخول على ولي من الأولياء “تستور يا سيدي الفلاني”, وقد اعتبر بعض الغلاة من الشيوخ في فتاويهم أن تلك دعوات كفرية شركية ليس الغرض منها فقط الإستئذان بل طلب الحماية ودعوة الجن وشيوخ الصوفية من دون الله والإستعاذة بهم في أمور الحياة, ودرء الحسد والعين والإستعاذة بالشياطين عند نزول مكان ما مصداقاً لقوله ” وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً” حيث كانت تلك عادة للعرب في الجاهلية قبل الإسلام حيث يقولون “نعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه”, وهناك من أشار إلى أن إستخدام كلمة “دستور” ها هنا مرده بحسب زعمهم إلى أن ثمة دستوراً تم صياغته بين النبي سليمان (عليه الصلاة والسلام) وبين ملوك الجن من بنوده عدم تعرض الجن إلى بني آدم أو إيذائهم لذلك عند قول “دستور” يكون ذلك لطلب الأمان تذكيراً لهم ببنود الاتفاق المبرم بين الجن وسليمان الحكيم.
لكن ومن ناحية أخرى وبعيداً عن تلك التأويلات التي تربط بين “دستور” وأخواتها وبين الجن والخرافات يبدو أن أصل هذا الإستخدام قديم وشائع في الفولكلور الشعبي حيث يٌقال عند الإستئذان لدخول بيت أو مكان ما “دستور” أو “يا ساتر” وعندما يتأكد أصحاب البيت من هوية الزائر ويعطونه الإذن يقولون له “دستورك معاك يا أخويا خُش برجلك اليمين”, وقد شاع ترديد “دستور” ومشتقاتها و”يا ساتر” في الأحياء الشعبية عند حضور الضيوف والغرباء وذلك لتتهيأ الحريم الكاشفات رؤوسهن وزينتهن لتغطية رؤوسهن ويستترن, وجاء منه لوصف المتجاوزين عند العامة “دخل من غير لا إحم ولا دستور”.
“دستور” لغةً وأصل استخدامها عند العامة لطلب الإذن بالدخول: جاء في معجم المصطلحات والألقاب التاريخية لمصطفى عبد الكريم الخطيب :كلمة فارسية معناها قانون دخلت العربية عن طريق الأتراك, كان يُقصد بها في البداية الكهنة من أتباع الديانة الزرادشتية, و”دستور” بفتح الدال وضمها من الفهلوية (لغة إيران القديمة) بمعنى القاضي والحكم وكبير الزرادشتيين.
وهناك من حاول تأصيل تلك التقاليد الشعبية وإرجاعها للعصر العثماني حيث جرت العادة لدى حراس وأغوات السلطنة العثمانية ترديد صيحة “دستور” عالية بغرض التحذير والإنذار فيسرع من في القصر السلطاني بإفساح طريق لمرور السلطان، حيث تستتر الحريم، ويتأهب الرجال للإنحناء إجلالاً لمرور السلطان وموكبه.
لكن الحقيقة أن هذا الإستخدام أقدم من العصر العثماني فقد جاء في معجم الألفاظ التاريخية في العصر المملوكي لمحمد أحمد دهمان من طباعة دار الفكر بدمشق :”كما تستعمل كلمة الدستور لطلب الإذن لمرور الرجال بين النساء ليشقوا له الطريق ويفسحوا المجال ويتستروا “, وفي الموقع الرسمي للشيخ محمد بن محمود الملوي في ديسمبر 2013 عند التعرض لتلك الجدلية بعنوان “قول دستور عند الإستئذان” كان الشيخ منفتحاً مستنكراً دعوات تكفير وتشريك قائلي “دستور” مفنداً إياها بالحجة والمنطق فأورد أن السيوطي رحمه الله في شعبان 1440م عندما بدأ التدريس في الجامع الشيخوني بحضور شيخه علم الدين صالح البلقيني استأذن شيخه في البدء قائلاً “دستوركم” فقال البلقيني “قُل”, بل أنه أورد استخداماً قديماً منذ العصر الأيوبي حيث ورد ذلك بحسبه في كتاب الإعتبار لأسامة بن منقذ أيضاً حيث قال “… ثم دخل القاهرة بغير إذن من العادل ولا دستور…”.
كاتب المقال: الآثاري د. محمد شبانة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى