كتب د/حربي الخولي
في قوله تعالى من سورة يوسف : “وجاءوا أباهم عشاءً يبكون ” ملمحان بلاغيان، أولهما : أن الله سبحانه وتعالى ذكر وقت مجيء أخوة يوسف وهو وقت العشاء، وفي ذلك فائدة لم تكن تظهر بدون تحديد الوقت كأن يقوله سبحانه ” وجاءوا أباهم يبكون”؛ لأن تحديد الوقت أفاد دلالة على خديعتهم وكذبهم على أبيهم، فهم يريدون أن يوهموا ذلك الأب المسكين أنهم فعلوا ما عليهم من الحفاظ على يوسف، وأنهم بذلوا كل الجهد في البحث عنه حتى وجدوه وقد أكله الذئب بزعمهم، فوقت لعبهم ورعبهم ينتهي كالعادة وقت المغرب، وهم ليسوا بعيدين عن مساكنهم، ففي العادة يرجعون مع المغرب، لكنهم تأخروا عمدا للعشاء حتى يظهروا لأبيهم أن تأخرهم كان بسبب البحث عن يوسف حتى وجدوه وقد أكله الذئب بزعمهم، كما أن وقت العشاء في صحراء مظلمة لن يتبين يعقوب والذي يتميز بالفطنة ملامحهم وهم يحكون ويتباكون وبالتالي لن يكشف خداعهم، ولو حكوا له في ضوء النهار لاضطربوا وهم يحكون لعلمهم بفطنته وذكائه ووقتها يكاد المريب يقول خذوني، فاختاروا وقتا يستر تمثيلهم وهو وقت العشاء والظلام، وكذلك اختاروا وقت العشاء ليسدوا على أبيهم طلبه أن يصطحبوه إلى مكان أكل الذئب ليوسف، أو أمرهم إذا كشف أمرهم بالعودة والبحث عنه، فالوقت قد تأخر وإن أراد فلن يكن ذلك إلا في الغد، ووقتها يكون أمر يوسف قد انتهى بأن ابتعدت القافلة التي أخذته كثيرا عن مضاربهم، وقد قيل أنهم راقبوا القافلة حتى التقطته وسارت به .
وفي قوله :” يبكون ” وليس “باكين”، فالتعبير بالفعل المضارع عن حالتهم وليس باسم الفاعل وذلك أدل على تمثيلهم وخداعهم، فلو قال باكين بالاسم لكان التعبير بالاسم أثبت للحالة؛ لأن الاسم يدل على الثبوت، فلو عبر بالاسم لدل ذلك على أنهم كانوا يبكون حتى قبل مجيئهم ليعقوب فحالتهم البكاء الدائم من بعد أن تبين لهم – لو كان الأمر على الحقيقة – أكل الذئب ليوسف، أما اختيار يبكون فيدل على أن البكاء بدأ مع دخولهم على يعقوب، فعندما جاءوا واقتربوا من مكان أبيهم بدءوا في البكاء المصطنع والصياح ليسمعهم أبيهم ويخرج لهم ويستبين حالهم، وهم يوهمونه بذلك البكاء المصطنع أنهم صادقين مع علمهم الحقيقة وأنهم يكذبون، لذلك قالوا من خلال الصراع النفسي داخلهم ” وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ”، وفي ذلك القول اعتراف رسمي منهم بأنهم يكذبون، حيث يقولون له: أنت لن تصدقنا حتى في حالة كنا صادقين بالفعل؛ أي أننا في حالتنا هذه نكذب، وحتى لو قلنا الصدق والحقيقة فلن تصدقنا؛ لذلك فطن يعقوب لقولهم مع حالة قميص يوسف فقال لهم :” بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ “. والله أعلى وأعلم