فن وثقافة

قاهرة الحلواني:هل فعلاً الذي بنى مصر كان في الأصل حلوانياً من كرواتيا؟!(1)

من منا ينسى أغنية الفنان على الحجار في تترات مسلسل الزمن الجميل “بوابة الحلواني” وكلماتها “اللي بنى بنى مصر كان في الأصل حلواني وعشان كده مصر يا ولاد حلوة الحلوات”, والمقصود بمصر هو “مدينة القاهرة” حيث تشتهر القاهرة بهذا الإسم خاصة بين أبناء الأقاليم المصرية, والذي بناها يُقصد به القائد العسكري الفاطمي المشهور باسم “جوهر الصقلي”, واليوم سنحاول أن نغوص في أعماق بحر التاريخ لإلقاء الضوء على إشكالية خاصة بهذا الفاتح “جوهر الصقلي” مشيد قاهرة الفاطميين في ذلك العصر الفاطمي المفترى عليه والذي يُعد في رأينا هو العصر الذهبي لمصر الإسلامية مهما حاول المتطرفون فكرياً والمجردون من الموضوعية العلمية قديماً وحديثاً أن ينالوا من ذلك العصر بدافع الحقد والتعصب الديني والمذهبي الذميم, ويكفي الفاطميون فخراً أن عصرهم كان عصر الليبرالية عصر الحريات عصر تبلور الوجدان المصري الإسلامي ونضوج العقل الجمعي المصري الإسلامي, وإرساء دعائم الكثير من العادات والتقاليد الإجتماعية والفولكلورية التي استقرت في العقل الجمعي المصري كثوابت راسخة حتى وقتنا هذا, وإذا حق للعراق أن يفاخر الأمم الإسلامية بالعصر العباسي الأول فوجب لمصر أن تباهي بالعصر الفاطمي الأول, ويكفي الفاطميين أيضاً أنهم شيدوا القاهرة حاضرة مصر المدينة المعزية المحروسة التي كانت وتحيا وستظل هي قلب العروبة والإسلام النابض, إحدى الأوابد الشامخة العصية على الزمن.
توطئة: كان من المسلم به حتى زمن قريب أن “جوهر” الذي يأخذ النسبة المكانية “الصقلي” ينتسب إلى جزيرة صقلية وأنه قائد مسلم وُلد في الجزيرة التي كانت آنذاك وبحسب هذا الرأي تحت السيادة الفاطمية, إلا أن الدراسات الحديثة أرست نظرية جديدة فيما يخص أصل هذا القائد الفاطمي نظرية تعد ثابتاً هاماً وسط الأخبار التاريخية المتناثرة حول هذا القائد الذي يكتنف تاريخه الكثير من الغموض فلا يُعرف على وجه الدقة تاريخ ميلاده ولا أين ولد ولا ديانته عند ولادته ولا عائلته ولا موطنه الأصلي ولا كيف دخل إلى عالم الفاطميين وكيف اتصل بالمعز وحتى وقت قريب لم يكن يُعرف أصله العرقي, لكن تاريخ وفاته ثابت حيث توفي في القاهرة التي أسسها في شهر ذي القعدة سنة 381هــ/ يناير 992م.
مولده وألقابه ونسبته: لا يُعرف على وجه الدقة تاريخ ميلاد جوهر رغم أن البعض يقترح تواريخ ولكنها فرضيات مثل تاريخ 911م (299هــ), و928م (316هــ), ومما يزيد الأمر استعجاماً واستبهاماً هو تلك النظرية التي كانت شائعة عن أصله حتى وقت قريب كمسلمة بأنه “صقلي” الأصل والمولد (أي إيطالي ضمناً), ولكن بعض العلماء الذين قاموا بدراسات حديثة حول سيرة جوهر أكدوا أنه “صقلبي” – سنشير لمعناها في حينه -, أما ألقاب جوهر فتعكس هذا الإلتباس التاريخي حول أصله حيث يُشار إليه أحياناً بـ”الصقلي”, و”الرومي”, و”الصقلبي”, ولديه أيضاً ألقاب أخرى مثل “القائد” و”الكاتب”.
النظرية القديمة المتعلقة بترجمة جوهر وسيرته: تقول أن جوهر كان عبداً لدى الفاطميين ولد في بدايات القرن العاشر الميلادي في جزيرة صقلية زمن سيطرة العرب عليها وأنه تربى في كنف الخليفة الفاطمي “المنصور”, ثم أن الخليفة “المعز لدين الله” أعتقه واختصه من مواليه وقربه منه لما رأى من إخلاصه للدين والدعوة الإسماعيلية وما يتمتع به من مواهب فذة وكفاية عسكرية نادرة وكناه “بأبي الحسين” ولقبه بلقب “مولى أمير المؤمنين” ووصل جوهر في عهده إلى أعلى المناصب القيادية العسكرية كقائد عسكري لجيوش الخليفة الفاطمي “المعز لدين الله” ووضعه المعز كقائد للحملة الفاطمية المظفرة التي فتحت مصر سنة 358هــ/969م وقال فيه مقولته الشهيرة:” والله لو خرج جوهر وحده لفتح مصر, وليدخلن إلى مصر بالأردية من غير حرب ولينزلن في خرابات ابن طولون ويبني مدينة تقهر الدنيا”, وقد فتح جوهر مصر وحكمها كنائب عن المعز لأكثر من أربعة أعوام فيما بين 358هــ حتى مجيء المعز من شمال إفريقيا سنة362هــ.
النظرية الجديدة المتعلقة بجوهر: أصل جوهر في تلك النظرية من “الصقالبة” لذا أطلق عليه “صقلبي”.
التعريف بالصقالبة ولمعة عن دورهم في التاريخ الإسلامي: الصقالبة هو الإسم القديم الذي أطلقه المؤرخون والجغرافيون العرب والمسلمون على ما يُعرف حديثاً باسم “السلاف” Slavs أو “الشعوب السلافية”, والسلاف هم مجموعات بشرية عرقية لغوية تتألف من عدة شعوب ويشكلون أغلبية السكان في عدة دول على رأسها روسيا الاتحادية ومنها دول شرق أوربا مثل يوغسلافيا السابقة والدول المنبثقة عنها بعد انفصالها وهي صربيا, الجبل الأسود (مونتنيجرو), كرواتيا, البوسنة والهرسك, مقدونيا الشمالية, سلوفينيا, بالإضافة لدول أخرى مثل أوكرانيا, بيلاروسيا, التشيك, سلوفاكيا, بولندا, بلغاريا …الخ, لكن الحقيقة أن لفظة “صقالبة” والتي تشير في المقام الأول إلى “السلاف” قد توسع المؤرخون والجغرافيون في إطلاقها مع السلاف على كل العبيد اًصحاب البشرة البيضاء الذين يجلبون من الدول الأوربية المسيحية, وقد شاعت تجارة العبيد “السلاف” أو الصقالبة لما كان يتمتع به الصقالبة من قوى جسمانية وشجاعة وفروسية وقدرات قتالية عالية, وكان ثمة مراكز كثيرة لتجارة العبيد الصقالبة منها خوارزم, براغ, الأندلس, دلماسيا (في كرواتيا حالياً) والبندقية أو فينسيا, وقد كان للصقالبة دور كبير في الدولة الأموية بالأندلس وكان منهم الخصيان والأصحاء, وكذلك عند دولة الأغالبة في شمال إفريقيا وصقلية الأغلبية.
الصقالبة في الدولة الفاطمية: كان للصقالبة كطائفة عسكرية دور كبير في العصر الفاطمي سواء في بلاد المغرب العربي أو في صقلية أو في مصر بل أن دورهم تعاظم في ذلك العصر ويعتبر زمن الخليفة الفاطمي “المعز لدين الله” هو العصر الذهبي لنفوذ الصقالبة في الدولة الفاطمية حتى أن تأثيرهم الثقافي امتد لحد أن الخليفة المعز كان يعرف اللغات “الصقلبية أو السلافية” للتواصل مع مواليه الصقالبة والتحرز مما يقولون لأن بعض مواليه كانوا يحتفظون بتلك اللغة وسط ديار الإسلام, ومن الشخصيات الصقلبية الشهيرة في الدولة الفاطمية والتي تبوأت مناصب عليا في الدولة “الأستاذ جوذر أو جودر الصقلبي” الوزير الرئيس في الدولة الفاطمية وهو الذي سميت حارة الجودرية بالقاهرة على إسمه, وجوهر الصقلبي موضوع بحثنا قائد الجيش وفاتح مصر ومشيد القاهرة والجامع الأزهر, وحاكما برقة وطرابلس الشام زمن المعز كانا صقلبيين أيضاً, وهناك كذلك يانس الصقلبي زمن العزيز بالله والذي سميت حارة اليانسية على إسمه, وبرجوان الصقلبي والذي قتله الخليفة الحاكم بأمر الله والذي سميت حارة برجوان على إسمه, وكذلك ريدان الصقلبي متولي وظيفة صاحب المظلة زمن العزيز بالله والذي سميت الريدانية خارج باب الفتوح على إسمه, وقيل كذلك أن والدة الخليفة الحاكم بأمر الله كانت صقلبية روسية, وقد أشار المقريزي في خططه إلى درب الصقالبة بحارة زويلة (حارة اليهود حالياً) وذكر أنهم طائفة من العسكر الفاطمي.
جوهر والخلط بين “الصقلي” و”الصقلبي”: يذكر علي إبراهيم حسن في كتابه “تاريخ جوهر الصقلي” أن جوهر ولد بجزيرة صقلية إحدى جزر الدولة الرومانية فهو باعتبار مولده رومي الأصل وأن صقلية موطن جوهر ظلت تحت حكم الرومان حتى فتحها الأغالبة سنة 212هــ/ 827م على يد أسد بن الفرات وأن سكان جزيرة صقلية أسلم أكثرهم على إثر ذلك الفتح وكان منهم جوهر الذي شب على الإسلام لكن عاد واستدرك قائلاً أن المؤرخين يطلقون على جوهر “جوهر الصقلي” نسبة إلى موطنه الأصلي صقلية وأنه شاع إطلاق لفظ “الصقالبة” على سكان جزيرة صقلية وأن ذلك خطأ واضح بحسبه, والحقيقة أن لفظة “رومي” تطلق على رعايا الدولة الرومانية سواء الغربية أو الشرقية والأخيرة هي المعروفة باسم الدولة البيزنطية وهي التي كان يقصدها علي إبراهيم عندما أشار للدولة الرومانية حيث تنازعت السيادة على جزيرة صقلية في فترات الدولة البيزنطية مع العرب بل أن القرن العاشر نفسه والذي ولد جوهر فيه على الأرجح سيطر العرب أغالبة وفاطميون على أجزاء كبيرة من الجزيرة وليس كلها ولم يتم تصفية الوجود البيزنطي وخضوع الجزيرة بكاملها للعرب إلا في تاريخ سنة 965م, وفي بحثه عن العبيد الصقالبة في الدولة الأغلبية يذكر “ديمتريج ميشين” أن كلمة “صقلبي” قريبة من “صقلي” وقد يقع خلط بينهما لدى المؤرخين وذكر بالفعل عدة أخطاء حدثت جراء هذا الخلط, ومن ضمن الأخطاء أيضاً هي ما حدا بالبعض لاطلاق العنان لخيالهم دونما احتراز علمي بالاعتقاد أن الصقالبة كانوا هم عماد الجيش العربي الذي فتح صقلية وأن تسمية الجزيرة نفسها بـ صقلية هو نسبة إلى الصقالبة هؤلاء وهذا خطأ بين فصقلية نفسها تسمى Sicily ولأنها تتبع إيطاليا حالياً يطلق عليها الإيطاليون “سيتشيليا” والمعروف أن لفظة “صقلية” قديمة وتعني أرض الخصب أو جزيرة الخصب بينما مادة “صقلب” لها اشتقاق وأصول لغوية آخرى Sklavio,Sklavenio,Sclavi,Sclavini وفي اليونانية عرفت بـ Sklabeno والخلاصة أن الكلمة في اللغات السلافية تعني المجد بينا استقرت في اللغات الأجنبية والإنجليزية بمعنى “العبد” Sclavos والتي اشتقت منها كلمة Slave وتعني العبد.
.. للحديث بقية إن شاء الله

بقلم العالم الآثارى/ د. محمد شبانة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى