الدراسات الحديثة وعلى رأسها دراسة العالم “هربك”: أثبتت الدراسات الحديثة بما لا يدع مجالاً للشك أن “جوهر” من أصل “صقلبي” سلافي, وقد نفى العالم “هربك” hrbek في بحثه القيم die slawen im dienste fatimiden الإدعاءات السابقة التي حددت أصل جوهر كمسلمة بأنه “صقلي” وليس من العبيد الصقالبة وخلاصة رأي “هربك” أن المصادر تشير إلى الصقالبة كعبيد, بينما أهل صقلية غير المسلمين يندرجون تحت بند “أهل الذمة” والذين بحسبه ضاقت جداً دائرة استعبادهم واسترقاقهم, كما أن عزوف السلطات الحاكمة عن مسألة ترقية أحد من السكان الأصليين للبلاد المفتوحة إلى منصب كبير في الدولة يدعم الأصل الصقلبي لجوهر لا الصقلي ويذكر “شانيول جيوا” في بحثه عن دور الصقالبة أو السلاف في العصر الفاطمي أن الدراسات اللاحقة لدراسة “هربك” تدعم رأيه حول الأصول الصقلبية لجوهر وبالتالي ينتمي جوهر وفق أصح الدراسات وأحدثها إلى العرق السلافي الذي أشرنا إليه آنفاً.
لكن بما أن جوهر كان سلافياً فهل كان من أصل كرواتي وتحديداً من مدينة دلماسيا الكرواتية؟ الكروات كما أسلفنا هم أحد الشعوب السلافية التي تشكل دولة كرواتيا الحديثة المنبثقة من يوغسلافيا الاتحادية سابقاً وهي جمهورية تقع في جنوب شرق أوربا عاصمتها وأكبر مدنها هي زغرب, وقد ذكر الإدريسي في كتابه “نزهة المشتاق” تلك البلاد باسم “بلاد جرواسية ودلماسية” وفي موضع آخر “بلاد جرواسية التي تسمى دلماسية وهي على البحر”, ودَلْمَاسِيَة (دلماطية – دلماتيا- دلماسيا- دلماشيا (هي منطقة على الساحل الشرقي من البحر الادرياتيكي، تقع معظمها في كرواتيا الحديثة, ولأن نظرية الأصل الصقلبي لجوهر أصبحت هي الشائعة خرج علينا بعض الباحثين منذ فترة قريبة برأي مفاده أن جوهراً ولد في كرواتيا وأنه كرواتي من مدينة دلماسيا التي تقع في كرواتيا وأنه مسلم, وأوغل أحدهم في إطلاق العنان لخياله حتى جاء بتلفيقة غريبة نوعاً وهي القول بأن جوهر من الأرمن في كرواتيا وأنه حلواني كان يجيد صناعة الكنافة والحلوى قبل أن يُباع كمملوك للخليفة الفاطمي المنصور, وقد قال باشتغاله بمهنة “الحلواني” أكثر من باحث ولكن لم يثبت ذلك بدليل علمي حاسم حتى الآن وإن كان هذا القول يُستأنس به خاصة في ظل التماهي في إسباغ الطابع الأسطوري والفولكلوري والدرامي على قصة حياة جوهر, لكن مسألة كونه كرواتياً من دلماسيا هي أمر غير ثابت بالدليل العلمي القاطع, ورغم أنني من المعتنقين لنظرية الأصل الصقلبي السلافي لجوهر إلا أنني متردد في قبول الأصل الكرواتي له ومن مدينة دلماسيا تحديداً كأمر مفروغ منه, وربما حدا البعض بذلك الاعتقاد أن مدينة دلماسيا الكرواتية كانت جنباً إلى جنب فينسيا (البندقية) الإيطالية مركزين تجاريين هامين لتجمع العبيد الصقالبة لبيعهم ومن ثم انتشارهم في الأراضي الإسلامية سواء في الأندلس (إسبانيا الإسلامية) أو بلاد المغرب العربي في شمال إفريقيا أو في صقلية أو حتى في المشرق الإسلامي تلك التجارة التي صبت البابوية الأوربية المسيحية لعناتها على القائمين عليها حتى أن “بوزورث” كاتب مادة “الصقالبة” في موسوعة الإسلام الأجنبية يذكر أن البابا جريجوري السابع أجبر الملك زفونيمير ملك كرواتيا بالقسم أثناء تتويجه بعدم السماح بتجارة العبيد في كرواتيا ودلماتيا, وبناءً عليه فلو ثبت بالدليل الدامغ مجيء جوهر الصقلبي من دلماسيا فلا يعني ذلك بالضرورة أن كرواتيا هي موطنه الأصلي فلربما جاء من أصل صربي أو روسي أو بولندي أو تشيكي …الخ وتم شحنه مع العبيد في دلماسيا ومنها خرج إلى صقلية وبالتالي فقد اعتقد البعض أن وفوده من دلماسيا تحديداً قد يعني أنه من أصل كرواتي ومن تلك المدينة على وجه الدقة وهو أمر لا يمكن الجزم به للأسباب التي سقتها كما لا يمكن الجزم بعكسه أيضاً حيث من الوارد أن يكون صحيحاً, أما مسألة كونه أرمنياً من كرواتيا فهي محض خيال وعبث علمي لأن كرواتيا يقطنها العرق السلافي ولم يكن يتواجد فيها بأي شكل من الأشكال العرق الأرمني وحتى الوقت الحاضر فإن التركيبة السكانية لكرواتيا بمجموعاتها العرقية تخلو تماماً من العرق الأرمني.
التضارب بين الأصل الصقلي والصقلبي والرومي لجوهر وتفسيره: في الحقيقة أن النظرية القديمة التي تقول بالأصل الصقلي لجوهر والنظرية الجديدة التي تقول بالأصل الصقلبي قد لا تكون الهوة بينهما واسعة لهذه الدرجة والعلاقة متنافرة لهذا الحد بل أنهما يلتقيان في النسب الذي أطلق على جوهر وهو “الرومي” فالرومي تعني البيزنطي وهذا يؤيد سيناريو واحد يحسم هذا اللغز وهي أن جوهر صقلبي الأصل سلافي (لاحظ تعاظم المد السلافي الصقلبي في صقلية وعاصمتها مدينة بلرم أو باليرمو حتى أن ثمة حارة في بلرم يطلق عليها حارة الصقالبة) وقد وفد أبوه عبدالله على الأرجح من دلماسيا في كرواتيا حالياً – دون أن نقول بأن أصله من كرواتيا ودلماسيا ولا أن اسم أبيه الأصلي عبدالله فوارد أنه تسمى بهذا الإسم في صقلية بعد إسلامه – والتي كانت مركزاً لتجارة العبيد الصقالبة وانتقل منها كعبد إلى صقلية وأنجب ابنه جوهر هذا في صقلية والذي ولد حراً لا عبداً بحسب “مونيس” كاتب مادة “جوهر الصقلي” في موسوعة الإسلام الأجنبية, وقد ولد جوهر في رأيي زمن السيادة البيزنطية (الرومانية) على الجزيرة وليس زمن السيادة العربية كما اقترح البعض لأنه ليس من المنطقي لشخص ولد وأسلم وشب تحت السيادة العربية للجزيرة أن يُطلق عليه “رومي” لمجرد علاقة البيزنطيين المكانية بجزيرة صقلية إلا إذا كان أصله بيزنطي يوناني أو إيطالي وهو الذي يخالف حقيقة الدراسات الحديثة, ثم لما استقر العرب في الجزيرة أسلم جوهر وأبوه شأن الكثير من سكان الجزيرة ولما أسلم علقت بشخصه عند الإشارة إليه الثلاثة ألقاب وهي “الصقلي” كنسبة مكانية لمكان مولده, و”الصقلبي” كأصل عرقي لجوهر وهو الذي ثبت حديثاً, و”الرومي” باعتباره ولد تحت مظلة السيادة الرومانية على جزيرة صقلية وهذا يحسم الجدل تماماً حول قصة حياة جوهر الصقلي؛ حيث أن “نظرية الأصل الصقلبي” لا يمكن اعتناقها بالكلية ورفض “نظرية الأصل الصقلي” بالجملة؛ فكلاهما به جزء من الحقيقة ويكملان بعضهما البعض ولا يتنافران وليس ثمة خلط لغوي بين النسبتين الصقلي والصقلبي كما اعتقد أصحاب نظرية الأصل الصقلبي يعضد ذلك أن جوهر والذي ولد وعاش في مدينة راغوزا (راجوزا, رغوس, رغوص, رجوسة Ragusa) بجزيرة صقلية عُثر على نقش كتابي على الحجر محفوظ في أحد متاحف صقلية يذكر تشييد جوهر لأحد الأبنية زمن الخليفة المعز لدين الله وهذا دليل مادي آثاري على علاقة جوهر المتأصلة بالجزيرة والتي لا يمكن اقتلاعها من جذورها أبداً مهما كانت أدلة الأصل الصقلبي السلافي دامغة, حيث ينبغي ألا نهرف بما لا نعرف وأن نضع الأمور في نصابها الصحيح دون الانسياق وراء الأهواء وتغلييب نظرية على أخرى تغليباً مطلقاً بل نوفق بين النظريات بعقلانية ومنطقية مغلفتين بالموضوعية, وختاماً سواء ثبت الأصل الكرواتي أو مهنة الحلواني لجوهر أو لم يثبت فهذا لا يغير من الحقيقة شيئاً وهي أنه صقلبي الأصل (سلافي) صقلي المولد, وأنه بالفعل لو لم يكن حلواني فقد صنع “القاهرة” بلمسة جمالية حلوة وبرونق ومذاق خاص وأسبغ عليها الفاطميون من عوائدهم واحتفالاتهم وطقوسهم الخاصة ما جعلها تبدو في الأيام الخوالي كمدينة من ألف ليلة وليلة قطعة حلوى وسط الشرق الإسلامي ودرة تاج المدن والحواضر والعواصم الإسلامية.
بقلم العالم الآثارى/ د. محمد شبانة