التعليق على الصورة، الميل البشري للشعور بالذهول إزاء الطبيعة ليس مقتصرا على المشاهد المتعلقة بالأجرام السماوية – فالأشجار العملاقة أيضا يمكنها أن تثير الشعور ذاته.
تقول جينيفر ستيلار، باحثة علم النفس بجامعة تورنتو، إن الذهول “شعور ينتاب المرء لدى مجابهته شيئا ما شديد الضخامة على نحو يفوق قدرته على الاستيعاب”.
ويمكن لأمثال هذه المواقف أن تسفر عن تغيير في حياة مَن يشهدونها، حسبما يرى داكر كيلتنر، باحث علم النفس بجامعة كاليفورنيا، في كتابه بعنوان “الذهول”.
يقول كيلتنر إن الذهول “شعور بالتعجب باستطاعته أن يُسكت صوت النفس أو ‘الأنا’ الداخلي المتذمّر والناقد والمستبد والواعي … ويدفعنا هذا الشعور إلى تجميع شتاتنا ومحاولة التساؤل من أجل فهم أعمق لأنساق الحياة”.
وتعتبر هذه النتيجة التي خلص إليها كيلتنر وزملاؤه، نتيجة بالغة الأهمية، وقد جمعوا أدلة كثيرة داعمة لتلك النتيجة.
وفي سنة 2018 تناولت دراسةٌ ما يثيره الذهول من شعور المرء بالتواضع. وقد طلب فريق الباحثين من نصف عيّنة المستجيبين للدراسة أن يشاهدوا مقطع فيديو تتسع فيه زاوية الكاميرا تدريجيا منتقلة من الأرض إلى الكون الفسيح.
أما النصف المتبقي من عينة المستجيبين للدراسة فقد طلب منهم الباحثون أن يشاهدوا مقطع فيديو يساعد على الاسترخاء وتشرح مادته كيفية بناء سياج.
بعد ذلك، طلب الباحثون من أشخاص الفئتين أن يكتبوا في دقيقتين عن نقاط قوتهم ونقاط ضعفهم.
وكما افترض الباحثون، أظهرت كتابات الفئة التي شاهدت الفيديو الأول المتعلق بالكون الفسيح ميلاً إلى التواضع فيما يتعلق بنقاط القوى.
وفي دراسة أخرى للفريق البحثي ذاته، طلب الباحثون من ثُلث عيّنة المستجيبين أن يتذكروا وقتاً شعروا فيه بالذهول. فيما طلب الباحثون من ثُلث آخر من العيّنة أن يتذكروا وقتاً عاشوا فيه دُعابة مضحكة. بينما الثلث المتبقي من عينة المستجيبين، فقد طلب منهم الباحثون أن يتذكروا وقتاً قضوه في رحلة لشراء حاجاتهم من محلات البقالة دون أن تقع لهم في تلك الرحلة أحداث تستحق الذكر.
بعد ذلك طلب الباحثون من الفئات الثلاث أن يجيبوا عن سلسلة من الأسئلة تستهدف وضْع تقييم (على مقياس من 0% إلى 100%) لمدى تأثير عوامل مختلفة على منجزاتهم الحياتية – بما في تلك العوامل، مواهبُهم الخاصة أو قوى خارجية كالحظ أو القدر.
صدر الصورة، GETTY IMAGES
التعليق على الصورة، بعد طول إهمال على صعيد البحث العلمي، أصبح شعور الذهول يحظى باهتمام الدراسات العلمية، لا سيما في العقدين الماضيين.
وسوف تتوقع عزيزي القارئ أن المستجيب الأكثر تواضعاً سيميل إلى ذِكر القوى الخارجية – وهذا بالضبط ما وجده الباحثون – في إجابات الفئة الأولى التي تذكرت وقتا شعرت فيه بالذهول.
وفي ذلك تقول جينيفر ستيلار، باحثة علم النفس بجامعة تورنتو: “هذا أمر مفهوم، كون أن الشعور بالذهول يحطّ من تقدير المرء لأهميته ومن نرجسيته. إن ‘الأنا’ بداخلنا تقود حواسنا وهي التي تدفعنا إلى اتخاذ القرارات، وعندما يداهمنا شعور أكبر من تلك الأنا، كذلك الشعور الذي يصيبنا بالذهول، فإنه يُذري بتلك السُلطة التي تمتلكها تلك الأنا على المرء”.
حدود ضبابية
وإلى جانب إشعارنا بتواضع قدراتنا، يساعدنا انكماش “الأنا” في أن نرى الآخرين على ضوء جديد.
تقول ستيلار: “عندما يتناقص شعوري بنرجسيتي، يصبح الخط الفاصل بيني وبين الآخرين ضبابيا. عندئذ يمكنني أن أرانا جميعا جزءا من كُلّ، وهو الإنسانية”.
وإلى جانب تلك الخطوط الضبابية، طلب الباحثون من المستجيبين للدراسة أن يصورّوا مدى شعورهم بالقرب من مجتمعاتهم. وقد جاءت الصور عبارة عن أزواج من الدوائر – كل زوجين عبارة عن دائرتين إحداهما تمثل المستجيب بينما الدائرة الأخرى تمثل الناس أو المجتمع من حوله.
وقد بدت الصور تشبه إلى درجة ما “مخطط فين Venn للرسم البياني”؛ حيث الدوائر المتداخلة ترمز إلى قوة الاندماج المجتمعي.
وربما تبدو هذه الطريقة غامضة شيئا ما أو مبهمة، لكنها تعتبر مقياسا معياريا للترابط الاجتماعي، وبعد مشاهدة الفيديو المثير للذهول، كان المستجيبون يختارون الدوائر ذات التداخل الأكبر.
نتائج رائعة
وبقدر ما لهذه التجارب من أهمية، إلا أنها قد لا تعكس بالضرورة ردود الأفعال التلقائية للناس إزاء ظواهر طبيعية خارج المختبر – وهو ما كان يؤرق شون غولدي، باحث علم النفس بجامعة هوبكنز، عندما بدأ في إعداد رسالة الدكتوراة.
يقول غولدي: “كنت أبحث عن طريقة لدراسة الناس بينما يختبرون شيئا ما شديد الأهمية”.
صدر الصورة، GETTY IMAGES
التعليق على الصورة، الكسوف الكلي للشمس في سنة 2017 كان فرصة ذهبية سنحت للباحثين للوقوف على ما إذا كانت أمثال تلك الأحداث الطبيعية قادرة على دفع الناس إلى الشعور بالذهول
وجاء الكسوف الكلي للشمس في 2017 ومعه حلّ لهذا الأرق الذي يعانيه غولدي – ذلك الاصطفاف النادر للقمر مع الشمس، والذي أثار شعورا بالذهول.
وقد دفع هذا الحدث النادر الكثيرين إلى التعبير عن مشاعرهم هذه على وسائل التواصل الاجتماعي، ما اعتُبر بدوره فرصة ممتازة لقياس ردود أفعال الناس بشكل مباشر إزاء الحدث (الكسوف الكلي للشمس).
ولكي يجمع بياناته، كان على غولدي أن يتجه إلى منصة تويتر (إكس). وبالوقوف على بيانات تتعلق بالمواقع الجغرافية للمستخدمين، استطاع غولدي أن يتوقع مَن من المستخدمين قد شاهد الكسوف الكلي للشمس، ومَن منهم فاتته فرصة المشاهدة.
بعد ذلك، عمد غولدي إلى تحليل الخطاب الذي ورد في منشورات المستخدمين للمنصة.
وكانت تعابير مثل “مدهش” أو “يأخذ العقل” تعدّ بديلا لتعبير “مذهل”، بينما كانت تعابير أكثر تحفظّاً مثل “ربما” و “قد يكون” تمثّل الشعور بالتواضع.
فيما استدل الباحث على الاندماج الاجتماعي عبر كلمات مثل “الرعاية” أو “التطوع”، فضلا عن كلمات دالة على العِرفان والمحبة.
وجاءت النتائج رائعة بما يكفي لإثارة التعجب في حد ذاتها. فكان الناس الواقعون في مسار الكسوف الكلي للشمس أكثر ميلا (بمعدل الضِعف تقريبا) إلى التعبير عن الذهول في تغريداتهم.
وكما كان متوقعا، كان ذلك الميل إلى الذهول مختلطا بمشاعر أكبر بالتواضع والاندماج الاجتماعي.
وكان من الممكن رصد ذلك بسهولة في الضمائر التي استخدمها هؤلاء الناس، حيث أقبلوا أكثر على استخدام ضمير المتكلم الجمعي “نحن” أو “نا الفاعلين”- ما يعكس خبرة جماعية وتجربة مشتركة، مقارنة بأولئك الذين لم يقعوا في مسار الكسوف الكلي للشمس.
وأكد الباحث غولدي على أن الآثار كانت قصيرة الأجل نسبيا “في مدى 24 ساعة فقط”. لكن حتى هذه الفترة القصيرة من الترابط تستحق الترحيب باعتبارها لحظة استراحة صعبة المنال وسط دوامة التوترات اليومية التي نعيشها.
وفي هذه الحقبة الزمنية من الاستقطاب والفُرقة المجتمعية، لا يزال بإمكاننا نحن البشر أن نجد أرضية مشتركة في اندهاشنا وذهولنا إزاء أُمّنا الطبيعة من حولنا، وهذا يغريك عزيزي القارئ على انتظار مشهد الكسوف الكلي للشمس والمرتقب في يوم الثامن من أبريل/نيسان الجاري.
أساطير وخرافات
إلا أن هذه الظواهر الفلكية لم تكن محل كل هذا الاحتفال والترقب قديما، فطالما ارتبطت بالعديد من الخرافات، نرصد بعضها هنا.
الخسوف “يقتل البابا”
في عام 1628، تنبأ فلكيون أن خسوف القمر المتوقع حدوثه سيكون مصحوبا بموت البابا أوربان الثامن، بابا الفاتيكان.
وتسببت هذه النبوءة بضجة سياسية كبيرة، إذ اضطر سفراء الفاتيكان إلى التأكيد بشكل مستمر على أن البابا بصحة جيدة.
وسببت النبوءة بلبلة في الرأي العام، فأصدر الفاتيكان مرسوما يُجرم مثل هذه النبوءات ونشرها.
وطال الخوف البابا نفسه، الذي أقام عددا من الشعائر لطرد الأرواح الشريرة. وعزل نفسه في غرفة، علّق فيها أثوابا بيضاء، وأضاء الشموع، ورش الخل، واستعان بعناصر أرضية كرموز للكواكب والأجسام السماوية الأخرى، مثل الأحجار والنبيذ.
ومر الخسوف بسلام وعاش البابا، لكن هاجس الخسوف ظل يطارده ويطارد من خلفوه على مدار مئات السنين.
ويرتبط الخسوف في التراث الديني بخروج الأرواح الشريرة والشياطين، واقتراب نهاية العالم.
حتى أن مارتن لوثر، مؤسس العقيدة الإنجيلية الذي رفض الاعتراف بأساطير الفلك، قال إن الخسوف والكسوف “نُذّر شؤم وشر، كولادة طفل مشوه”. كما كان على قناعة بأن الخسوف والكسوف يتكرران بوتيرة أسرع في زمانه، واعتقد أن هذا ينبئ باقتراب نهاية العالم.
إفساد الطعام
كما ساد الاعتقاد قديما بأن الأرواح الشريرة التي تخرج أثناء خسوف القمر تُفسد طعام البشر، وتُسبب عُسر الهضم وأمراض المعدة.
وامتنع الناس عن الطعام والشراب أثناء هذه الظواهر الكونية، خشية أن يصيبهم مكروه.
كما اتجهت بعض الثقافات لتغطية الطعام بأوراق الأشجار، مثل ورق أحد أنواع الريحان الذي اعتُبر مقدسا وطاردا للشرور.
صدر الصورة، GETTY IMAGES
أجنة مشوهة
التزمت النساء الحوامل ببيوتهن أثناء فترات الخسوف والكسوف، إذ ساد الاعتقاد بأن الخروج في هذا الوقت أو التعرض للضوء قد يضر بهن وبالأجنة في أرحامهن.
وتراوح الضرر ما بين الإعياء والإصابة بالأمراض، وصولا إلى تشوه الجنين، وأحيانا الإجهاض.
كما يمكن أن يصيب الخسوف الطفل بلعنة تلازمه طوال حياته.
ومُنعت النساء الحوامل كذلك من استخدام أو مسك السكين وأي آلة حادة، لأنها قد تُحدث علامة في جسد الجنين.
وبشكل عام، راج اعتقاد بأن تعرض الإنسان لجرح أثناء الخسوف والكسوف يزيد من النزيف، ويجعل الجرح غائرا، ويزيد من الوقت الذي يحتاجه للالتئام، وأحيانا تظل علامة الجرح موجودة في رقبة المصاب طوال حياته.
زيادة الحسنات والسيئات
اعتقد سُكان التبت أنه وقت حدوث الكسوف والخسوف، تتضاعف كل من الحسنات والسيئات التي يفعلها الإنسان.
واعتبر البعض الظاهرتين فرصة للتخلص من الذنوب عن طريق الاغتسال والتطهر.
ولجأ البعض إلى الاستحمام في وقت الخسوف أو الكسوف لتُزال عنهم الذنوب والطاقة السلبية، ويصلوا إلى الخلاص.
كذلك أقامت بعض الثقافات والديانات شعائراً للاغتسال في الأنهار للتطهر من الذنوب.
خلاف بين الشمس والقمر
صدر الصورة، GETTY IMAGES
التعليق على الصورة، الصراع بين الشمس والقمر اعتُقد أنه وراء ظاهرتي الخسوف والكسوف
إحدى أشهر الأساطير وأكثرها ارتباطا بقصص الأطفال هي أن الكسوف والخسوف يحدثان نتيجة خلاف (وأحيانا عراك) بين الشمس والقمر، وتكون الغلبة فيه لمن يطرد الآخر.
وارتبط هذا الخلاف أحيانا بعراك بين الآلهة الغاضبة، بحيث ينسحب إله الشمس أو إله القمر بعد أن يمنى بالهزيمة.
فعندما يغادر إله الشمس السماء، يحدث الكسوف. وحين يغادر إله القمر، يحدث الخسوف.
وانعكس هذا الخلاف على أهل الأرض، الذين رأوا في استمراره خطرا يحدق بهم. ولجأوا إلى حل الخلافات بينهم كوسيلة لإرضاء الآلهة لتنهي خلافاتها بدورها.
أسواق المال ما زات تتأثر
أظهر بحث أجرته كلية كوبنهاغن لإدارة الأعمال في الدنمارك أن حركة أسواق المال تتأثر بفترات الكسوف والخسوف، إذ يعزف المستثمرون عن اتخاذ إجراءات قد يرونها “خطرة”، أو تنطوي على مجازفة.
وشمل البحث، الذي تم عام 2010، تحليل بيانات على مدار ثمانين عاما، من أربعة أسواق مال أمريكية، وعشرة أسواق مال آسيوية.
وأظهر البحث أن المضاربين وأصحاب رؤوس الأموال يكونون أكثر ترددا في الأوقات التي يشعرون فيها أنهم لا يتحكمون في مجريات الأمور، أو أن الطبيعة أقوى منهم.
لكن في كل الأحوال، تعود الأسواق لتصحح أوضاعها خلال يومين على الأكثر بعد انقضاء الخسوف والكسوف.