وماذا بعد الإدانة والاستنكار؟!

تسابقت دول العالم وفي مقدمتها العربية والإسلامية بإصدار بيانات الإدانة والاستنكار لما ارتكبته قوات الاحتلال الاسرائيلي صباح أمس من مجازر وبخاصة مجزرة “الطحين” بدوار النابلسي شمالي قطاع غزة، وراح ضحيته فلسطينين عزل كان أملهم هو الحصول على عدة جرامات من الطحين يقومون بإعداده خبزا يقتاتونه هم وأبنائهم الذين يموتون جوعا..
والغريب أن الإدانات قد جاءت من دولا كانت وما زالت هي اليد التي تمد جيش الاحتلال بما يحتاجه من سلاح يواصل به قتل من يذرفون الدمع عليهم حاليا.. كما أنهم هم الذين أعطو رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي الضوء الأحمر لارتكاب جرائمه كل يوم، منذ أن أعلنوا تأيدهم للعدوان منذ الثامن من أكتوبر الماضي بدعوى أن تل أبيب لديها حق الرد لما حدث في السابع من أكتوبر 2023, وهو ما جعل جيش الاحتلال يتمادى في غيه وارتكاب القتل تحت سمع وبصر العالم كله..
وعندما حاولت جنوب أفريقيا وقفه عند حده وذهبت لمحكمة العدل الدولية لمحاكمته بتهمة الإبادة الجماعية في حق الفلسطينيين، قامت أمريكا وألمانيا وحتى فرنسا “التي يبدي رئيسها ماكرون اليوم غضبه من قتل الباحثين عن لقمة عيش”، باستغلال نفوذها والضغط على قضاة بالمحكمة لعدم الإدانة .. كما وقفت أمريكا حائلا أمام إصدار مجلس الأمن الدولي أكثر من مرة قرارا بوقف فوري للحرب .. وبالتالي أثبت العالم الغربي ازدواجيته في تطبيق معايير حقوق الإنسان وقدسية روحه.. وهذا لم يكن غريبا علينا بل كان متوقعا فمواقفه السابقة كانت كاشفه بأن مواثيقه الدولية التي ينادي بها ما هي إلا لحمايته وإسرائيل فقط وليست لكل الدول .
أما ما يحزنني ومعي الملايين من الشعب العربي والمسلم هو موقف زعماء بلداننا الأشاوس الذين تسابقوا اليوم في إصدار بيانات الشجب والإدانة والاستنكار.. وكأنهم لم يروا العدوان الإسرائيلي واسع النطاق على قطاع غزة كل يوم والذي يخلف حوالي ثلاثين ألفا من الشهداء وأضعافهم من المصابين والجرحى، إضافة إلى مساحات واسعة من الدمار، فجيش الاحتلال يواصل عدوانه منذ الثامن من أكتوبر وحتى الآن وبالتالي هذا ليس جديدا، وما حدث اليوم هو فقط أظهر كم الوحشية التي يدير بها الحرب ومنذ انتهاء فترة الهدنة مع المقاومة الفلسطينية..
ولماذا ينسى هؤلاء الزعماء أن الشعب الفلسطيني يقدم تضحيات جساما على مدى ما يقرب القرن، منذ وجود الحركة الصهيونية الغازية على ارض فلسطين، وما يزال يقدم مثل هذه التضحيات، من قتل وتدمير وتشريد وأسر واعتقال، في محاولات يائسة من قبل حكومات متطرفه في تل أبيب لتركيع الشعب الفلسطيني واجبار قواه الحيّة على الاستسلام وانهاء حركة المقاومة.. وهذا ما لم يتم للمعتدين عبر هذه السنوات الطويلة الممتدة، بل ان الصراع يزداد اتساعاً، والمواجهات تتصاعد حدتها كل يوم رغم ضعف العتاد وقلة الحيلة وخذلان الأخوة بل وحصار تسبب في موت أطفال صغار من الجوع.
والأغرب أنه ما زالت هناك أصوات عربية همها هو ملاومة واتهام المقاومة بأنها السبب في العدوان الإسرائيلي وكأنه قد توقف يوما ما.. وهؤلاء استطاعوا تقسيم العرب الى معسكرين: بعض الدول مع الاحتلال في الخفاء، وآخرين مع المقاومة، فهذا التقسيم يُفْسد المسألة ويجعل بعض الدول فعلاً في الصف المعادي او يُضعف موقفها المؤثر في الصراع.
فقد ظلت مثل هذه الاتهامات قائمة منذ زمن طويل .. والذين لا يريدون ان يستفيدوا من تجارب الماضي هم وحدهم الذين يواصلون مثل هذه الخطوات التي تدمر الامة، فنحن في حاجة ماسة إلى أن تعي الانظمة والحكومات العربية والاسلامية أن وحدتها في هذه القضية هي وحدة وجود وحياة، وتخندقها وراء المقاومة سوف يجبر الأمم المتحدة والدول الغربية وفي مقدمتها أمريكا على السعي لوقف المجازر التي تتعرض لها غزة والضفة الغربية، ولاطلاق سراح اكثر من احد عشر الف اسير في سجون الاحتلال الاسرائيلي.
وعلى الأنظمة التي تنتظر من نتنياهو أن يواصل عدوانه أو ضرب رفح وتدمير خان يونس بدعوى استئصال شأفة حركة ”حماس” وانهاء سيطرتها على القطاع، أن تعلم أن وجود المقاومة الفلسطينية هو حماية للأنظمة العربية المحيطة بجيش الاحتلال..
كان من واجب الحكومات العربية قبل غيرها التدخل لوقف هذا العدوان قبل وقوعه، فمعظم الحكومات العربية ذات صلة وثيقة باطراف الصراع، في اطار مساعي السلام والمبادرة العربية للسلام، واتفاقات التطبيع التي هرول لها الكثير وفتحت لها الأبواب التي كانت مؤصدة لسنوات طويلة خاصة دول الخليج التي غيرت بوصلتها نحو تل أبيب.
وأنا أطالب قيادات فصائل فلسطينية من المقاومة والتي لا تجد تعاطفا معها من بعض الانظمة العربية، وفي مقدمتها “حماس” أن تغير من سياستها مع الأنظمة العربية، لأنها عادت هذه الانظمة وصنفتها في صف الاعداء، وان توظف علاقتها بدول عربية واقليمية اخرى لمصلحة المقاومة ولدعم .
أما السلطة الفلسطينية، وحركة فتح، وما كانت تسمى بمنظمة التحرير، فأصبحت الآن تحتاج إلى ضخ دماء جديدة في عروقها ومنح الفرصة أمام الشباب الوطني الذي لم يلوث بعد بأفاعيل السياسة أو بأموال أمريكا أو الخليج والتي جعلت شخصيات كانت يوما ما محسوبة على المقاومة الفلسطينية تغيرت مواقفها، بعد أن عاشت في حضن التطبيع فأصبحت تقف موقف المتفرج مما يحدث في قطاع غزة، فمثل هذا الموقف لا يمكن ان يوصف الا انه تخلٍ عن محو تاريخ مشرف من الدفاع عن قضية وطن وتخل عن جزء مهم من الشعب الفلسطيني، أو ادارة ظهر لتضحيات هذا الشعب على مدى الاجيال السابقة.
وبالنسبة لحكومة نتنياهو والتي هددت بتصفية حماس، فهي تحاول حفظ ما تبقى لها من ماء في الوجه لكسب ما يدعى أنه انتصار ولو بالوحشية والإبادة، ومحاولة تغيير الواقع على الارض بهدف فرض مناطق عازلة أو تهجير الفلسطينيين لأماكن أو دولا أخرى.. وإعادة تغيير مصطلحات مثل اللاجئين الفلسطينيين وبالتالي إنهاء عمل منظمة مثل الأونروا..
الواقع يقول إن شيئا لن يتغير في السياسة الاسرائيلية وفي ممارسات الاحتلال التعسفية والوحشية، فهل سنظل نصدر بيانات الشجب والادانة والاستنكار فيما دماؤنا تنزف كل يوم.
هذا هو السؤال الذي لا يجد إجابة وافية؛ ماذا بعد إدانة الجميع للمجازر والدماء التي تسال وتشربها أرض فلسطين؟!
فلا بأس أن يعبر كل هؤلاء وغيرهم عن أسفهم لما حدث ويؤكدوا رفضهم للممارسات العنفية، بل جميل أن يصدر عنهم مثل هذا التعاطف وهذا الموقف، لكن كل هذا لا يعدو كلاماً قيل بلسان، فمتى تصدر أفعالا لها تأثير في منع ارتكاب مجازر أخرى أو وقف العدوان الإسرائيلي المستمر، وحل القضية الفلسطينية.. وبالتالي سوف نستمر في إصدار هذه البيانات !!
شريف حمادة
كاتب وصحفي مصري