تحقيقات وملفات

ارتفاع نسب الطلاق في مصر… خلل تشريعي وثقافي يعيد تشكيل المجتمع

لم يعد ارتفاع معدلات الطلاق في مصر مجرد ظاهرة اجتماعية عابرة، بل تحوّل إلى أزمة ممتدة تمس جوهر الاستقرار الأسري، وتكشف عن خلل واضح في التوازن بين التشريع والتطبيق، وبين الحقوق والواجبات، وبين الحرية والمسؤولية.
والأخطر أن آثار هذه الأزمة لم تعد محصورة داخل البيوت المنفصلة، بل امتدت لتُعيد صياغة وعي المجتمع، وخاصة فئة الشباب، تجاه فكرة الزواج ذاتها.

قوانين بلا ضوابط كافية

لا خلاف على أن حماية المرأة من الظلم حق أصيل، لكن الواقع العملي أثبت أن بعض القوانين الأسرية تُطبَّق دون ضوابط كافية تمنع إساءة استخدامها.
هذا التطبيق غير المتوازن حوّل الزواج، في نظر كثيرين، من ميثاق استقرار إلى علاقة عالية المخاطر، قابلة للانهيار السريع دون ضمانات حقيقية للإصلاح.

النتيجة لم تكن عدلًا اجتماعيًا، بل اهتزاز الثقة في مؤسسة الزواج نفسها، وشعور متزايد لدى عدد كبير من الرجال بأنهم الطرف الأضعف قانونيًا، مهما كانت نيتهم في الحفاظ على الأسرة.

الوضع الاقتصادي… شماعة من طرف واحد

لا يمكن إنكار أن الأوضاع الاقتصادية تمثل ضغطًا حقيقيًا على الأسرة، لكن الخطير هو تحويل العامل الاقتصادي إلى شماعة جاهزة لتبرير الانفصال من طرف واحد، وكأن الزواج تم في فراغ أو دون معرفة مسبقة بالواقع.

فالزوجة، كما الزوج، تعلم بالحالة المادية قبل الزواج، وتقبل الارتباط على هذا الأساس، وبالتالي لا يصح لاحقًا تقديم نفس الواقع المعروف مسبقًا باعتباره سببًا طارئًا لهدم الأسرة.

الأزمة الاقتصادية لا تُسقط الالتزام، بل تختبره.
أما تحميل العبء كاملًا على الزوج، وتحويل الظروف العامة إلى اتهام دائم، فهو منطق هروب لا منطق حل، ويُعيد تعريف الزواج من شراكة على الممكن إلى عقد مشروط بالرفاه.

إعلام يكرّس الصراع

ساهمت بعض المنصات الإعلامية في تقديم الزواج باعتباره ساحة صراع دائم بين الرجل والمرأة، لا علاقة شراكة ومسؤولية.
هذا الخطاب لم يُنصف المرأة، ولم يُصلح الرجل، بل أشاع ثقافة الشك والعداء داخل البيوت، وشرعن فكرة الانفصال بوصفها الحل الأسهل.

تشويه القِوامة وارتباك الأدوار

القِوامة في أصلها الشرعي مسؤولية وتكليف، لا تسلطًا ولا امتيازًا، لكن تشويه المفهوم، وتقديمه كرمز للهيمنة، أدى إلى صراعات داخل الأسرة حول السلطة بدلًا من التعاون، وأفقد البيت مرجعيته التنظيمية الطبيعية.

الطلاق وعزوف الشباب عن الزواج

الأثر الأخطر لانتشار الطلاق لا يظهر فقط في الأرقام، بل في عزوف الشباب المتزايد عن الإقدام على الزواج.
فالصورة السائدة اليوم تُقدِّم الزواج كتجربة خاسرة، تنتهي غالبًا بالنزاع والمحاكم والاستنزاف النفسي والمادي، ما دفع كثيرين إلى تأجيل الارتباط أو الهروب منه كليًا.

وهذا العزوف لا ينبع من رفض للأسرة، بل من خوف عميق من الفشل وعدم الأمان.

العنوسة والبحث عن بدائل خطرة

ارتفاع معدلات العنوسة لم يعد مسألة فردية، بل ظاهرة لها آثار اجتماعية ونفسية خطيرة، من بينها:

تفكك الروابط الاجتماعية الطبيعية

ازدياد الشعور بالعزلة والاضطراب النفسي

تراجع قيمة الزواج بوصفه الإطار الطبيعي للعلاقة الإنسانية

ومع انسداد أفق الزواج المستقر، يتجه البعض إلى بدائل خارج إطار الأسرة:
علاقات بلا التزام، وأنماط معيشية هشة، وتطبيع التفكك باعتباره أمرًا طبيعيًا، وهو ما يؤدي تدريجيًا إلى تآكل القيم وتسييل العلاقات الإنسانية.

غياب المرجعية القيمية

تراجع الدور التوعوي الفاعل للمؤسسات الدينية، وغياب خطاب واضح ومتزن يعالج قضايا الأسرة بلغة العصر دون تفريط، ترك فراغًا خطيرًا ملأته خطابات سطحية وغير متخصصة، تُقدِّم الشعارات بدل الحلول.

ما الذي يجب فعله؟

مراجعة تشريعية جادة تعيد التوازن وتُلزم بمحاولات إصلاح حقيقية قبل الطلاق

سياسات اقتصادية داعمة للأسرة دون تحويل الظروف العامة إلى مبرر للهروب

إعلام مسؤول يُحاسب على خطاب التحريض الأسري

خطاب ديني واجتماعي واضح يعيد الاعتبار للأسرة دون مجاملة

جعل مصلحة الأبناء خطًا أحمر في أي نزاع أسري

خاتمة

حين يتحوّل الطلاق إلى ظاهرة، لا يعود الزواج خيارًا آمنًا، بل مغامرة محفوفة بالخسارة.
وحين يرى الشباب أن أغلب النهايات تبدأ داخل المحاكم لا داخل البيوت، فإنهم لا يهربون من الزواج كسلًا، بل خوفًا.

والمجتمع الذي يعتاد التفكك، سيبحث عن بدائل،
والبدائل لا تبني أسرًا، ولا تُنجب استقرارًا، ولا تصنع مستقبلًا.

ارتفاع الطلاق اليوم يعني انخفاض الزواج غدًا،
وانخفاض الزواج يعني اتساع العزلة، وضياع القيم، وتشويه النموذج الإنساني للأسرة.

لسنا أمام أزمة بيوت فقط، بل أمام أزمة وعي ممتدة.
وإن لم تُستعد هيبة الأسرة، ويُعاد التوازن للتشريع والخطاب والإعلام،
فلن نواجه فقط بيوتًا منهارة،
بل جيلًا لا يؤمن أصلًا بفكرة البيت.

وهنا، لن يكون الطلاق هو الخطر الأكبر،
بل سيكون أبسط أعراض الانهيار.

محمود حمدي
كاتب مصري

alarabicpost.com

موقع إخباري عربي دولي.. يتناول آخر الأخبار السياسية والاقتصادية والثقافية والرياضية، إضافة إلى التحقيقات وقضايا الرأي. ويتابع التطورات على مدار 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى