عبد الناصر محمد يكتب : سياسة الخديوى إسماعيل .. وعرض المحل للبيع !!
من وجهة نظري المتواضعة تعد الديون الخارجية خاصة والداخلية بصورة عامة مؤشرا على الاقتصاد وقوته ومتانته واتجاهه في الدول، لكن ذلك المؤشر ليس قانونا، فقد نجد دولا تستدين وتقترض ولكن لبناء نفسها من الناحية الاقتصادية، حيث تستغل الديون في بناء المصانع والزراعة وتحسين مناخ الاستثمار، فتقوم هذه المشروعات بسداد الديون وفوائدها، أما أن تكون دولة تقترض لتبني أكبر برج في العالم، أو أعظم قصر، أو لتدبش الترع وتنشئ ملاعب للشباب في القرى بدلا من مصانع صغيرة لهم، وتهدم وتقيم مخارج ومداخل الطرق، وتهدم وتقوم وحدات صحية الخ، وتصر على إقامة عاصمة إدارية جديدة وقطار كهربائي سريع كل ذلك بالدين، وكل ذلك جميل لكن ليس في وقته، وليس ضمن أولويات دولة فقيرة كما يؤكد المسئولون، وتظل تدور في فلك الاقتراض، وتكاد لا تستطيع أن تسدد فوائد الديون التي ستتركها للأجيال القادمة بعد أن أجَّرت أو باعت كل ما يمكن للأجيال القادمة ان تنتفع به، فهذا أمر في منتهى الخطورة .
فخلال السنوات الأخيرة تضاعفت ديون مصر من 46 مليار دولار أثناء حكم الرئيس المؤقت عدلي منصور، إلى نحو 166 مليار دولار، وزادت قيمة الدين الخارجي لمصر بنحو 12.3 مليار دولار في الربع الأول من عام 2022، بنسبة 8.5 في المائة، بحسب بيانات للبنك المركزي. وكما ذكرنا فالقروض لا تتجه إلى الإنتاج او إنشاء المصانع والزراعة وبالتالي فسيكون عائدها في قمة البطء؛ مما يجعلها تتراكم، فالحال كما لو أن صاحب محل قرر أن يستدين حتى يقوم بتزيين المحل، فهنا سيكون عليه ديون كثيرة ولا يستطيع سددها لأن الدين اتجه في غير الإنتاج، ولو أن صاحب المحل قرر التوسع في بضاعته والتنوع الخ لعاد الدين بالفوائد عليه، لكن أن يتجه إلى تزيين المحل فقط ويظل يقترض من أجل أن يقال : إن هذا المحل هو الأكثر تزيينا بالمنطقة وأنه ينبغي ان يعرف الناس مكانة المحل لأن المل ” مش شويه ” الخ؛ فهذا مما يؤثر في النهاية على مستقبل المحل ومن ينفق عليهم وقد يؤدي إلى بيع المحل نفسه في المزاد !. وقد نلاحظ بعض التشابه بين ديون مصر في عهد الخديوي إسماعيل وما يحدث في الواقع المعيش، فقد تسلم الخديوي إسماعيل مصر ودينها الخارجي 11 مليون وستون ألف جنيه إسترليني، وخلال الثمانية عشر عاماً التي حكم البلاد فيها، بلغت حوالي 127 مليون جنيه إسترليني !. وكان الخديوي كلما أراد المال يستدين بفوائد باهظة حتى أصبحت فوائد الديون تمثل 70 في المائة من الموارد العامة للدولة.
وهذه القروض التي اقترضها الخديوي إسماعيل كانت تذهب في غير مجال الإنتاج بحجة تحضر الدولة وجعلها قطعة من باريس، وأنه ينفق على الدولة وعلى مصر ولا يبني القصور لنفسه، فقد أسرف الخديوي على الحفلات وتشييد القصور وتجميلها؛ وقد بنى نحو ثلاثين قصراً من القصور الفخمة، منها سراي عابدین التي جعلها مقراً للحكم وحلت محل سراي القلعة التي بناها محمد على باشا، وسراي الجزيرة، وسراي بولاق الدكرور، وقصر القبة، وقصر حلوان، وسراي الإسماعيلية، وسراي الزعفران.
وبحسب كتاب ” مصر في عهد الخديوي إسماعيل”، فقد بلغت تكلفة تجميل هذه القصور وتأثيثها ما لا يحصى من الملايين، والنقوش والرسوم في قصور الجيزة والجزيرة وعابدين مليوني جنيه ونيفاً ، وبلغت تكاليف الستارة الواحدة ألف جنيه، وينقل الكتاب على لسان علي باشا مبارك أن ما أُنفق على إنشاء سراي الجيزة بلغ مليوناً و393374 جنيهاً، وسراي عابدين 565570 جنيهاً، وسراي الجزيرة 898691 جنيهاً، وسراي الإسماعيلية (الصغيرة) 201286 جنيهاً، وبقية القصور كلفت مليونين و331679 جنيهاً، ومن ذلك سراي الرمل 472399 جنيهاً.
وتجد الخديوي إسماعيل مقتنع تمام الاقتناع أن ما يفعله هو الخير لمصر، وأنه يبني مصر الحديثة، وأنه يفهم كل شيء ومعظم الشعب قد لا يفهم؛ لذا ينبغي أن يقوم هو بما يفهمه حتى يبني مصر ولو ضد رغبة معظم الشعب نفسه الذي لا يفهم، ولم يحاول الخديوي إسماعيل أن يوجه الديون إلى إنشاء المصانع وتأسيس الشركات التي تقوم بالخدمات الزراعية لنهضة مصر، ولم يفكر أبدا في خطر الاستدانة وان مصر في غير حاجة اصلا للديون، ولم يفكر في أن الاستدانة لتزيين المحل ستؤدي في النهاية إلى عرض المحل/مصر في المزاد وهو ما حدث بالفعل، ففي أواخر عهد الخديوي كانت معظم إيرادات البلاد تحوَّل إلى صندوق الدين – هو ذاته صندوق النقد الحالي – لسداد المرابين، وفوائد أسهم شركة السويس للحكومة البريطانية، ودفع الجزية السنوية للحكومة العثمانية، ولم يعد بين يدي الحكومة للصرف على إدارة البلاد أكثر من مليون جنيه، من مجموع قدره نحو تسعة ملايين ونصف المليون جنيه، ولم تكن تستطيع الاحتيال إلا بعدم دفع مرتبات موظفيها ومستخدميها، وبالعمل على تحويل ما يمكنها تحويله من الإيرادات العامة إلى صندوقها الخاص، بحسب كتاب “تاريخ مصر في عهد الخديوي إسماعيل باشا” .
واضطر الخديوي في 1877 إلى وقف صرف مرتبات موظفي الدولة وقوات الجيش لشهور، وتوقفت أجهزة الدولة بالكامل، وفي يناير 1878 كانت مصر على وشك المجاعة، حتى تم تعيين لجنة من ستة أوروبيين لمراجعة الوضع الاقتصادي والاستيلاء على ممتلكات الخديوي الشخصية وأراضيه البالغة نصف مليون فدان، وتعيين اثنين من الوزراء الأوروبيين فى الحكومة، واضطرت الحكومة إلى فرض ضرائب جديدة وهو الأمر الذي اعتاده الشعب المصري، فكلما تفشل الحكومة تفرض ضرائب جديدة، وترفع أسعار خدماتها بحجة السعر العالمي :” شوف يا اخي باريس وأمريكا وألمانيا سعر المنتجات بكام ؟ احنا في خير قوي واحسن منهم كمان”، ولا ينظرون أبدا إلى مقدار المرتبات والدخل في هذه الدول ، وفي 1879 حدث توتر شديد واحتجاجات بسبب الضرائب الجديدة .