بين نحلة ونعامة ..!!

نعامة تنهمك فى نحت الحشيش لتسد جوعتها ، ومن حولها صفاء وهدوء ، ليس فيه منغص سوى طنين نحلة لا ينقطع ، يبعد تارة ويقرب أخرى ، حتى ضاقت به النعامة ذرعا ، فرفعت رأسها لتبصر صاحبته ، تأملتها وهى تطوف متنقلة بين الزهور فثار حنقها عليها فنادتها فى بعض حدة ، ألا تسأمين من تطوافك هذا ولا تتعبين ؟ وماذا عليك لو قصرت تجوالك حول موطنك ولم تكلفى نفسك تلك المعاناة ؟ توقفت النحلة عن رشف الرحيق ورفعت رأسها واستدارت نحو النعامة وسكتت هنيهة ثم أجابتها ، وماذا يضيرك من طوافى وإن تكرر وطال ؟ .
خجلت النعامة فأطرقت إلى الأرض قليلا ثم رفعت رأسها وقالت ، ليس يضيرنى شئ وإنما أنا فى خيفة عليك وعلى بنى جنسك ، فإنكم توغلون فى البعد عن موطنكم ، وتقتحمون مواطن الأغيار وتخالطونهم ، وذلك غير محمود العاقبة لكم ، قالت أى عاقبة غير محمودة لنا يا جارة الوادى ؟.
قالت إنكم بتلك المخالطة قد تصيبكم عدوى السوء من مثالب من تخالطون ، وتكسبون منهم سماتهم التى تضر بهويتكم ، تبسمت وقالت لا عليك ولا تخشى علينا فنحن نخالطهم وبنا دراية بما هم عليه من حسن وسوء ، وتلك المخالطة أكسبتنا مهارة الفرز للغث من السمين ، فنأنف مما يضر ولا نتوانى عن أخذ ما يفيد ، وتلك منا خير من التى منكم ، حين نبذتم خصال القوم من حولكم ، وأعرضتم عنها بكليتها ، ففاتكم منها ما ينفعكم وهو لازم لكم ، ولو كل ساكنى الغابة صنع صنيعكم لزاولوا فى أماكنهم فلا يبرحونها فيبقون رهن التخلف عن ركب يمضى قدما للإمام بلا تريث ، وإننا يا سيدتى نغشى كل دار ، ونرتاد كل موطن ، ولكننا فى نهاية المطاف نأوى إلى مساكننا وبها نأنس ، فلا يقر لنا قرار إلا ونحن فى جوفها ، ثم طارت النحلة إلى غصن أدنى من النعامة واستطردت فى قولها ، لكنكم معشر النعام وقد لازمتم موطنا واحدا لا تبرحونه قد ورثتم الإنغلاق والإنكفاء على الذات ، وتمحور تفكيركم فى ضيق المكان ، فكان من ذلك جمودكم وثقلتكم ، وعزلة ضربت عليكم ، وآل حالكم إلى صدام مع كل وافد ونبذ لكل آت ، هنا قهقهت النعامة ساخرة وصاحت ، ويحك أيتها المتمدنة ذات التحضر والرقى ، أتدمغيننا بالرجعية والتخلف والجمود لأننا لا نبرح موطننا ولا نغشى غيره من المراتع التى يمرح بها الأوغاد؟!.
أتريدين منا حتى نحرز تقدميتك وتحضرك أن نلغ فى مطاعم لا نعلمها ، ومشارب لم نخبرها حتى نجرع السم ونحن لا ندريه فنهلك مع الهالكين ؟ فتبا لذلك من مسلك وساء ما تصنعون.
عادت النحلة إلى غصنها الأعلى ، وأقعت على قعرها ، ورفعت صدرها ، ثم فتحت جناحيها وقالت وهى تدور برأسها ذات اليمين وذات الشمال ، ألا ترين إلى تلك الآفاق من حولنا ، إننا لسنا بمعزل عنها ، ومنها تهب الأرواح متتابعة حاملة فى طياتها ما هو ينفع وما هو يضر ، وإنى وإياك لا قبل لنا باحتجازها أو التستر منها ، وإن لم نكن على دراية بما تحمله ما قدرنا على اجتناب أذاها ولاستنشقناه رغما عنا وإن لم نكن فى حصانة منه أضر بنا ، ولربما أودى بنا إلى التهلكة ، وأنتم معشر النعام لا ضمان لكم بالسلامة من تلك المهلكات ، وأنى لكم الضمان وأنتم لم تطعموا غير طعام واحد جعلكم فى جهالة عن غيره الذى قد يكون فيه السم وأنتم لا تعلمون ، ونحن معشر النحل قد طفنا عليه جميعا وخبرناه ، وطعمنا من كل المراتع وهضمناه ، وصرنا فى حصانة تكفل لنا منه النجاة ، فغرت النعامة فاها وهمت أن تقول شيئا لكنها بقيت قليلا ساكتة لا تدرى ما تقول واعترتها حيرة فأغلقت فاها كرة أخرى ، هنالك عاد الزمام إلى النحلة فأكملت بأننا نطوف على منابع الرحيق فى زهور مختلف ألوانها ، ونأخذ منها حاجتنا وندفعه إلى بطوننا ثم نخرجه للآخرين شهدا يغاير كل ما أخذنا ، فنكون قد أفضنا على غيرنا بما هو جديد عليه ، ولكنكم أيتها النعامات ليس لكم إلا مطعم واحد تأخذون منه نهمتكم ، وتستهلكون منه الكثير ، لكنكم فى ذلك عاجزين أن تأتوا بجديد ، ولا فعلتم ما يعجز عنه غيركم ، فمراتعكم كلأ مباح بمقدور من أراد أن يطعم منها ما يشاء ، ويحشو جوفه بما يريد ، هنا طأطأت النعامة من عجز عن السجال ولاذت بصمت مطبق .
طارت النحلة حتى حلقت فوق رأسها وقالت سأذهب إلى حيث رزقى وأكمل مهمتى لأعود بما ينفعنى ويفيد قومى ، ثم طارت وابتعدت ، والنعامة لا تزال فى صمتها تتأمل ما سمعت ، وقبل أن توغل النحلة فى البعد تذكرت ما يتوجب قوله فعادت إليها فانتبهت لها من شرود تأملها لتقول إنما عدت لأذكرك وأنبهك من غفلة ، بأننا معشر النحل من مخالطتنا للغير ، وورودنا على مشاربهم قد علمنا ما يلزمنا من أدوات الدفاع ضد هجمات خصومنا إن أتت من هناك أو هناك ، وأخذنا أهبتنا وتقلدنا لامة الحرب ، فإن جرؤ العدو على المداهمة وجد لدينا ما يرده وما يردعه ، وأصابه منا ما يجعله يستفيق لحقيقة أننا لسنا لقمة سائغة ، أما أنتم أيها المغيبون إن داهمكم عدو بهجمة أسقط فى أيديكم وأصابتكم الحيرة ، وجهلتم المواجهة كيف تكون فتلوذون بالهروب ، وتدفنون رؤوسكم فى تراب الأرض وأنتم تظنون فى ذلك الدفن النجاة وهو عين الهلاك .
ضمت النحلة جناحيها وأحنت رأسها قليلا فى استئذان مؤدب منها بالذهاب ثم طارت وعينا النعامة تتبعها حتى توارت فى عمق الأفق .
جمال بخيت
كاتب وروائي مصري