مدونات عرب بوست

بين نحلة ونعامة ..!!

 

نعامة تنهمك فى نحت الحشيش لتسد جوعتها ، ومن حولها صفاء وهدوء ، ليس فيه منغص سوى طنين نحلة لا ينقطع ، يبعد تارة ويقرب أخرى ، حتى ضاقت به النعامة ذرعا ، فرفعت رأسها لتبصر صاحبته ، تأملتها وهى تطوف متنقلة بين الزهور فثار حنقها عليها فنادتها فى بعض حدة ، ألا تسأمين من تطوافك هذا ولا تتعبين ؟ وماذا عليك لو قصرت تجوالك حول موطنك ولم تكلفى نفسك تلك المعاناة ؟ توقفت النحلة عن رشف الرحيق ورفعت رأسها واستدارت نحو النعامة وسكتت هنيهة ثم أجابتها ، وماذا يضيرك من طوافى وإن تكرر وطال ؟ .

خجلت النعامة فأطرقت إلى الأرض قليلا ثم رفعت رأسها وقالت ، ليس يضيرنى شئ وإنما أنا فى خيفة عليك وعلى بنى جنسك ، فإنكم توغلون فى البعد عن موطنكم ، وتقتحمون مواطن الأغيار وتخالطونهم ، وذلك غير محمود العاقبة لكم ، قالت أى عاقبة غير محمودة لنا يا جارة الوادى ؟.

قالت إنكم بتلك المخالطة قد تصيبكم عدوى السوء من مثالب من تخالطون ، وتكسبون منهم سماتهم التى تضر بهويتكم ، تبسمت وقالت لا عليك ولا تخشى علينا فنحن نخالطهم وبنا دراية بما هم عليه من حسن وسوء ، وتلك المخالطة أكسبتنا مهارة الفرز للغث من السمين ، فنأنف مما يضر ولا نتوانى عن أخذ ما يفيد ، وتلك منا خير من التى منكم ، حين نبذتم خصال القوم من حولكم ، وأعرضتم عنها بكليتها ، ففاتكم منها ما ينفعكم وهو لازم لكم ، ولو كل ساكنى الغابة صنع صنيعكم لزاولوا فى أماكنهم فلا يبرحونها فيبقون رهن التخلف عن ركب يمضى قدما للإمام بلا تريث ، وإننا يا سيدتى نغشى كل دار ، ونرتاد كل موطن ، ولكننا فى نهاية المطاف نأوى إلى مساكننا وبها نأنس ، فلا يقر لنا قرار إلا ونحن فى جوفها ، ثم طارت النحلة إلى غصن أدنى من النعامة واستطردت فى قولها ، لكنكم معشر النعام وقد لازمتم موطنا واحدا لا تبرحونه قد ورثتم الإنغلاق والإنكفاء على الذات ، وتمحور تفكيركم فى ضيق المكان ، فكان من ذلك جمودكم وثقلتكم ، وعزلة ضربت عليكم ، وآل حالكم إلى صدام مع كل وافد ونبذ لكل آت ، هنا قهقهت النعامة ساخرة وصاحت ، ويحك أيتها المتمدنة ذات التحضر والرقى ، أتدمغيننا بالرجعية والتخلف والجمود لأننا لا نبرح موطننا ولا نغشى غيره من المراتع التى يمرح بها الأوغاد؟!.

أتريدين منا حتى نحرز تقدميتك وتحضرك أن نلغ فى مطاعم لا نعلمها ، ومشارب لم نخبرها حتى نجرع السم ونحن لا ندريه فنهلك مع الهالكين ؟ فتبا لذلك من مسلك وساء ما تصنعون.

عادت النحلة إلى غصنها الأعلى ، وأقعت على قعرها ، ورفعت صدرها ، ثم فتحت جناحيها وقالت وهى تدور برأسها ذات اليمين وذات الشمال ، ألا ترين إلى تلك الآفاق من حولنا ، إننا لسنا بمعزل عنها ، ومنها تهب الأرواح متتابعة حاملة فى طياتها ما هو ينفع وما هو يضر ، وإنى وإياك لا قبل لنا باحتجازها أو التستر منها ، وإن لم نكن على دراية بما تحمله ما قدرنا على اجتناب أذاها ولاستنشقناه رغما عنا وإن لم نكن فى حصانة منه أضر بنا ، ولربما أودى بنا إلى التهلكة ، وأنتم معشر النعام لا ضمان لكم بالسلامة من تلك المهلكات ، وأنى لكم الضمان وأنتم لم تطعموا غير طعام واحد جعلكم فى جهالة عن غيره الذى قد يكون فيه السم وأنتم لا تعلمون ، ونحن معشر النحل قد طفنا عليه جميعا وخبرناه ، وطعمنا من كل المراتع وهضمناه ، وصرنا فى حصانة تكفل لنا منه النجاة ، فغرت النعامة فاها وهمت أن تقول شيئا لكنها بقيت قليلا ساكتة لا تدرى ما تقول واعترتها حيرة فأغلقت فاها كرة أخرى ، هنالك عاد الزمام إلى النحلة فأكملت بأننا نطوف على منابع الرحيق فى زهور مختلف ألوانها ، ونأخذ منها حاجتنا وندفعه إلى بطوننا ثم نخرجه للآخرين شهدا يغاير كل ما أخذنا ، فنكون قد أفضنا على غيرنا بما هو جديد عليه ، ولكنكم أيتها النعامات ليس لكم إلا مطعم واحد تأخذون منه نهمتكم ، وتستهلكون منه الكثير ، لكنكم فى ذلك عاجزين أن تأتوا بجديد ، ولا فعلتم ما يعجز عنه غيركم ، فمراتعكم كلأ مباح بمقدور من أراد أن يطعم منها ما يشاء ، ويحشو جوفه بما يريد ، هنا طأطأت النعامة من عجز عن السجال ولاذت بصمت مطبق .

طارت النحلة حتى حلقت فوق رأسها وقالت سأذهب إلى حيث رزقى وأكمل مهمتى لأعود بما ينفعنى ويفيد قومى ، ثم طارت وابتعدت ، والنعامة لا تزال فى صمتها تتأمل ما سمعت ، وقبل أن توغل النحلة فى البعد تذكرت ما يتوجب قوله فعادت إليها فانتبهت لها من شرود تأملها لتقول إنما عدت لأذكرك وأنبهك من غفلة ، بأننا معشر النحل من مخالطتنا للغير ، وورودنا على مشاربهم قد علمنا ما يلزمنا من أدوات الدفاع ضد هجمات خصومنا إن أتت من هناك أو هناك ، وأخذنا أهبتنا وتقلدنا لامة الحرب ، فإن جرؤ العدو على المداهمة وجد لدينا ما يرده وما يردعه ، وأصابه منا ما يجعله يستفيق لحقيقة أننا لسنا لقمة سائغة ، أما أنتم أيها المغيبون إن داهمكم عدو بهجمة أسقط فى أيديكم وأصابتكم الحيرة ، وجهلتم المواجهة كيف تكون فتلوذون بالهروب ، وتدفنون رؤوسكم فى تراب الأرض وأنتم تظنون فى ذلك الدفن النجاة وهو عين الهلاك .

‏ ضمت النحلة جناحيها وأحنت رأسها قليلا فى استئذان مؤدب منها بالذهاب ثم طارت وعينا النعامة تتبعها حتى توارت فى عمق الأفق .

جمال بخيت

كاتب وروائي مصري

alarabicpost.com

موقع إخباري عربي دولي.. يتناول آخر الأخبار السياسية والاقتصادية والثقافية والرياضية، إضافة إلى التحقيقات وقضايا الرأي. ويتابع التطورات على مدار 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى