كتب د/ حربي الخولي
يأبى القدر إلا أن يثبت لنا أن القيم العليا مثل التضحية والفداء لا زالت تتجسد ولن تنتهي أبدا من الشعب المصري ممثلا في مصنع الرجال الجيش المصري، ويريد الله أن يطمئن المصريين في ظروف حالكة واستفزازات بالغة الخطورة، وتهديدات من الجبهات المختلفة سواء من الجبهة الشرقية أو الغربية أو حتى الجنوبية وكلها حدود غير مستقرة ولا أمنة، فيريد الله أن يطمئن المصريين بأن لديهم رجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا، وعيونا حارسة، وقلوب صامدة لا تلين ولا تعرف الهوان، ولا تعترف سوى بالقوة والحق المبين، وكلها في جيش واحد موحد يجمع بين أبناء المصريين جميعا دون تمييز أو تفرقة، كلها أبناء الوطن وكلهم أسوده ودرعه الحصين، وكلهم يُقبل على الشهادة إذا لزم الأمر بكل حب وفداء كما يقبل الجبناء على الحياة بكل ذلة وخسة، فها هو الدليل العملي القاطع والبرهان الساطع يظهر من جسدي الشهيدين البطلين : الرائد طيار محمد السيد سليمان والملازم أول طيار باسم محمود شبل، الشباب الطاهر البريء الذي شب على حب الله ثم الوطن، والذي نشأ لا يعرف سوى العزيمة الصادقة وقوة الإيمان وشجاعة الإقدام، واتخاذ أصعب القرارات في أشد المواقف بما يصب في مصلحة وطنه المقدمة على ذاته، شباب مصر حقا وأبطالها الذين تفتخر بهما وتباهي الأمم، والذين يجسدون معنى البطولة الحقة وليست تلك الزائفة في المجالات الأخرى، والذين ينبغي أن يقتدي بهما شباب مصر، جاعلين منهما المثل والأسوة الحسنة وليس المهرجين ومعلمي الشباب البلطجة والإدمان وانفلات الأخلاق والسلوك المنحط في السينما وغيرها .
هذان البطلان وفي طلعة تدريبية بطائرة التدريب يحدث بها عطل فني كبير؛ مما يجعلهما في مأزق إما النجاة من الطائرة، وذلك أمر سهل، وتركها لتسقط فوق الناس فيُقتل الكثير، وقد تدمر منازل وأسر دون ذنب، أو توجيه الطائرة لأبعد نقطة في البحر في منطقة رأس البر لتجنب أذى الأبرياء، ودون تفكير في النفس كان اتخاذ القرار بالتضحية وإنقاذ المصريين في سلوك اعتاده وأتقنه رجال الجيش المصري، وتربوا عليه جيلا فجيلا، ورأيناه في كل معارك الجيش المصري خاصة في السادس من اكتوبر 1973 عندما كان تضحية المقاتل المصري بنفسه لإعلاء وطنه الشيء الطبيعي، فكان اتخاذ أبنائنا الأبرار الشهيدين بإذن الله قرارهما الصعب، وقد باعا نفسيهما لله ومرضاته، فاستحقا الوسام الإلهي والقبول الرباني بإذنه تعالى ليدخلهما في رحمته ويتقبلهما مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، مصداقا لقوله تعالى :” وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ” .
ورسالتي إلى أهلهما وذويهما : بألا تحزنوا وسعدوا بنيلهما الشهادة بإذن الله، وأنتم تعلمون أن الحياة منقضية آجلا أو عاجلا ، وأنهما قد كتب عليهما الموت كما كتب علينا جميعا في أي وقت، لكن الكرم الحقيقي والمنحة الإلهية اختارتهما للتكريم في الدنيا والآخرة ليكونا لكم شفعاء يوم القيامة، ويأخذوا بأيديكم إلى الجنة، فياله من كرم لا يدانيه كرم وتكريم ما بعده تكريم .
وأخيرا أرجو من الجميع الدعاء لهم بظهر الغيب :” اللهم إنهم قد رحلوا وهم يعدون لأعدائك ما استطاعوا من قوة، مؤمنين بك معتمدين عليك، يرجون رحمتك، فبفضل “ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين” أسكنهم فى أعلى عليين، يا أرحم الراحمين تقبل شهداءنا، اللهم نور مراقدهم وطيب مضاجعهم وآنس وحشتهم، وأرحم غربتهم، اللهم يا قدوس يا طهور يا من إليه تصير الأمور أنقلهم من ضيق المهود إلى سعة الدور والقصور، واملأ قبورهم بالرضى والنور، واجعل ضيق القبور عليهم انشراحا وسرور برحمتك يا من إليه تصير الأمور . اللهم إن شهداءنا قد مضوا إلى حالهم، وسبقونا بأعمالهم، وزهقت أرواحهم وسالت دماؤهم، وودعوا أحباءهم وفارقوا ذويهم، فاللهم يارب العالمين أرحم دموع المحبين، وتأوه المشتاقين يا غياث المستغيثين، ويا أمان الخائفين أجمعهم بأهليهم فى أعلى عليين، وأجعلهم لأهليهم شافعين ومشفعين، وأجعلهم جميعا فى الجنات منعمين، وبحورها مستمتعين، وعن النيران مزحزحين، وإلى وجهك الكريم من الناظرين يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين كن بأهليهم لطيفا ولأولادهم عطوفا ولزوجاتهم رؤوفا، اللهم تول أمرهم وأرحم ضعفهم وأجبر كسرهم وأحسن خلاصهم، اللهم اجعل الطمأنينة فى قلوبهم لا إله إلا الله وسبحان الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، ألا بذكر الله تطمئن القلوب، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .