أصل قرية ” منيل دويب ” بالمنوفية .. ماض مشوق وتاريخ عريق
قد لا يعرف الكثيرون عن قرية منيل دويب التابعة لمركز أشمون بمحافظة المنوفية شيئا، ويظل تاريخها مجهولا حتى على أبنائها أنفسهم الذين لا يعرفون عن أصل القرية سوى حكايات تتناقلها الأجيال، تدور حول أن اسم ” منيل دويب ” محرف عن ” منيم الدواب ” – فكما يذكر البعض نقلا عن الآباء والأجداد – أن القرية في الفتح الإسلامي لمصر كانت مقرا لدواب بعض الصحابة من جيش عمرو بن العاص، ومن هنا جاء الاسم، حيث الأصل أن القرية كانت مكانا لنوم الدواب وبالتالي أطلق عليها ” منيم دواب ” الذي حرف مع الوقت إلى ” منيل دويب “، وهذه الحكايات المروية لا أصل لها تاريخيا، فلو أن كلمة ” منيم ” تم تحريفها لكلمة ” منيل ” أي أن كلمة “منيل” بذلك لا أصل لها، وإنما هي تحريف لكلمة “منيم”، فمن أين جاءت كلمات ” منيل الروضة ومنيل شيحة ومنيل عروس، ومنيل جويدة وحي المنيل ومنيل موسى الخ؟ فهل كلها محرفة عن كلمة منيم ؟! .
ومع مراجعتنا كتب التاريخ نصل إلى أقدم ما ورد عن تلك القرية تاريخيا، حيث وجدنا أن اسم القرية قد ورد في كتاب “التحفة السنية بأسماء البلاد المصرية” لأحمد بن يحيى بن شاكر بن عبد الغني، أَبُو البقاء، شهاب الدين ابن الجيعان، المعروف بأحمد بن الجيعان (1484م — 1524م). وقد ورد في الكتاب السابق في صفحة ( 2، 3) وبعد الديباجة : ” فهذا كتاب أذكر فيه ما باقليم مصر من البلدان، وعبرة كل بلدوكم، مساحتها فدان، أبدأ أولا بذكر الأقاليم على وجه الإجمال، وأذكر عبرة الأقاليم المذكورة على ما استقر عليه الحال في أيام الأشرف شعبان …… أبدأ إلى أخر شهر شوال سنة سبع وسبعين وسبعمائة وذلك في أيام الأشرف شعبان بن حسين ” . والسلطان الأشرف شعبان الذي تم وضع الكتاب في زمنه هو السُّلْطَان الْملك الْأَشْرَف أبو المفاخر زَيْنُ الدِّينِ شَعْبَانُ بن الأمجد حسَيْنْ بن النَّاصِرُ مُحَمَّدُ بن الْملك الْمَنْصُور سيف الدّين قَلَاوُونَ الألفي العلائي الصَّالِحِي ( القاهرة 754هـ /1353م – القاهرة 778هـ/1377م) وتولي حكم مصر (سنة 764هـ/1363م) .
وقد ورد في صفحة 110 من الكتاب السابق ما يلي :” منيل أبو دويب مساحته 558 فدان به رزق 54 فدان عبرته 1400 دينار كان للمقطعين والآن لهم وأملاك وأوقاف ورزق متفرقة ” . أي أن أول ظهور لاسم القرية في الكتب التاريخية كان منذ ما يقرب من 650 عام تقريبا تحت اسم ” منيل أبو دويب “، في أعمال المنوفية، ضمن قرى الروك الناصري التي أحصاها ابن الجيعان في كتابه السابق “التحفة السنية بأسماء البلاد المصرية” . والمقصود بالروك الناصري عملية مسح الأراضي التي حدثت في عهد السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون . والروك هو قياس الأرض بالفدان وتثمينها أي تقدير درجة خصوبتها لتقدير الخراج عليها. ويقابل الروك في وقتنا الحاضر عملية المساحة العامة مثل المسح العقاري، وعملية تقدير الضرائب .
وفي العصر العثماني وردت باسم “منيل أبو دويب” في التربيع العثماني الذي أجراه الوالي العثماني سليمان باشا الخادم – (توفي عام 1547) وحاكم مصر لفترة طويلة من 1525 وحتى 1538- الذي أجرى المسح للأراضي في عصر السلطان العثماني سليمان القانوني ضمن قرى ولاية المنوفية، أي منذ 486 عام . وفي عهد محمد علي باشا والي مصر تم إجراء مسح جديد للأراضي الزراعية بالمنوفية في عام 1813م ؛ أي منذ ما يقرب من 211 عاما، فجاء اسم القرية في ذلك المسح ” منيل دويب ” وهو الاسم الذي ما زالت عليه للآن .
فمن أين جاء اسم ” منيل دويب ” ؟ بداية كلمة “منيل” التي تطلق على أماكن كثيرة سنلاحظ أن هذه الأماكن ترتبط بالنيل أو أحد أفرعه، وقد كانت كلمة منيل تنطق – مُنَيّل – بمعنى الشيء المرتبط بالنيل، ويقصد به إما مقياس النيل، تلك المقاييس التي كانت تستخدم لقياس فيضان النيل، وعلى أساسه يتم تحديد الضرائب في العام الزراعي المقبل، وقد عرف المصريون منذ أقدم العصور تشييد المقاييس في شتى أنحاء البلاد ليتعرفوا على ارتفاع النيل نظرا لعلاقته الوثيقة بري الأرض وتحصيل الخراج أي الضرائب أو أموال الدولة وذلك مثل مقياس الروضة وسمي به المكان فصار ” منيل الروضة ” أي مقياس الروضة، وأحيانا كلمة ” منيل تسهيل كلمة “مُنَيّل” كانت تطلق على الأماكن المرتبطة بالنيل والتي يكثر بها نبات النيلة ذلك الذي يستخرج منه الصبغة الزرقاء، فكل مكان يكثر به ذلك النبات كان يسمى منيل ثم يرتبط ذلك المنيل باسم آخر لأسباب متعددة ” . وبالنسبة لقرية منيل دويب فقد جاء بمخطوط ” أخبار نيل مصر ” لأحمد بن عماد الدين بن يوسف بن عبد النبي، أبو العباس، شهاب الدين الأقفهسي ثم القاهري الشافعي (المتوفى: 808 هـ) في المجلد الأول الصفحة 152 أن فرع دمياط كان يخرج منه فرعا بالقرب من كفر الفرعونية ليخترق الكفر ويمضي حتى يصل إلى قرية منيل دويب على مشارف القرية من ناحية ترعة العامرية الآن وخلف مقابر النصارى، وهناك كان يوجد مرسى للمراكب المبحرة من فرع رشيد والتي قد تكون حضرت من الصعيد أو من وجه بحري حتى تصل للمرسى في قرية منيل دويب، وقد وجد بهذا المرسى مقياس للنيل مما جعل المكان يطلق عليه منيل، أو أن نبات النيلة كان منتشرا في المكان فأطلق على المكان كذلك منيل منذ القدم، إذا لم يكن أبدا المكان اسمه منيم وحرف لمنيل .
ثم نأتي لسبب تسمية المكان في البداية باسم ” أبو دويب ” كما ورد في كتاب “التحفة السنية بأسماء البلاد المصرية” لابن الجيعان، فنجد أن ” أبو دويب ” ذلك لم يكن سوى الصحابي الشاعر ” أبو ذؤيب ” وتم تحريف أو تسهيل اسمه إلى ” أبو دويب ” كما هي العادة في الدارجة المصرية التي تطلق على الذئب ” ديب ” وعلى “الذهب” الدهب وهكذا إبدال بالذال حرف الدال، وقد كان ذلك الصحابي أدرك الجاهلية ثم أسلم وعندما ذهب ليرى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد مات فأدركه وهو مسجّى، وشهد دفنه، ونجد في ترجمته في كتاب ” الأعلام” لخير الدين بن محمود بن محمد بن علي بن فارس، الزركلي الدمشقي (ت ١٣٩٦ هـ) الجزء 2 ص 25 عن دار العلم للملايين، الطبعة: الخامسة عشر – مايو ٢٠٠٢ م أنه خويلد بن خالد بن محرّث شاعر فحل، مخضرم، واشترك في الغزو والفتوح. وعاش إلى أيام عثمان فخرج في جند عبد الله بن سعد بن أبي سرح إلى إفريقية (سنة ٢٦ هـ غازيا، فشهد فتح إفريقية وعاد مع عبد الله بن الزبير وجماعة يحملون بشرى الفتح إلى عثمان (رض) فلما كانوا بمصر مات أبو ذؤيب فيها.
وجاء في كتاب ” أبو ذؤيب الهذلي، حياته وشعره” لنور الدين بن المحمودي أنه – أي أبو ذؤيب – بعد اشتراكه في فتح مصر مع عمرو بن العاص أيام الخليفة عمر بن الخطاب عاد ليشارك في فتح أفريقية مع عبد الله بن سعد بن أبي السرح في عهد الخليفة عثمان بن عفان، ثم هاجر مع أسرته ليستقر بمصر في المنوفية بجوار مرسى المراكب في المنطقة التي سميت باسمه ” منيل أبو ذؤيب ” وقد أطلق الناس هذا الاسم على المكان نظرا لزيارتهم الدائمة له وتباركهم به، وقد أصيب أبناؤُه الخمسة بمرض الطاعون، وماتوا فتجلد وأنشد قصيدته (أمن المنون وريبه تتوجع)، ثم بعد موته تم دفنه بذلك المكان، بعد أن أوصى بأن يلحد له في الأرض، وأن يقوم بدفنه ابنه أَبُو عبيد، وعند موته قَالَ له: أبا عبيد رفع الكتاب .. واقترب الموعد والحساب، كما أوصى بأن يخفي مكان دفنه حتى لا يتخذ منه مزارا ولذا لم يعرف له قبر إلى الآن.